كتاب جامع المسائل - ابن تيمية - ط عطاءات العلم (اسم الجزء: 1)

رَحِمَ} (¬١). وبعد هذا دعا نوح ربَّه فقال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} (¬٢)، قال الله: {قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (¬٣). فإذا كان الله لمَّا استحقَّ ابنُ نوح الهلاكَ أهلكَه، وسألَ نوحٌ فيه فعاتبَ الله نوحًا على سُؤالِه، وهو أولُ رسولٍ بعثَه الله إلى أهلِ الأرض، فكيف يقال: إنه لا يُعذِّبُ أحدًا إلاّ برِضا طائفةٍ من عبادِه؟ فهل يكون أحدٌ أفضلَ من أولي العزم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم ومحمد؟
وقد {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} أي محنتك واختبارك {تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (١٥٥) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً ... } (¬٤) الآية.
وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (¬٥).
فهذا حالُ الرسل مع الله يَرُدّ على من يَغْلُو فيهم، فكيف يُقال: إنّ له عبادًا لا يُعذِّبُ أحدًا إلاّ برضاهم؟ بل يقال: هؤلاء العبادُ لو أرادَ أن يُهلِكَهم فمن يَملِك دَفْعَ بأسِ الله عنهم؟ وهؤلاء العبادُ عليهم
---------------
(¬١) سورة هود: ٤٢ - ٤٣.
(¬٢) الآية: ٤٥.
(¬٣) الآية: ٤٦.
(¬٤) سورة الأعراف: ١٥٥ - ١٥٦.
(¬٥) سورة المائدة: ١٧.

الصفحة 74