كتاب موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين

الثَّانِي: بَصِيرَةُ الْقَلْبِ، وَهُوَ النَّظَرُ بِعَيْنِ الِاعْتِبَارِ لِإِدْرَاكِ حِكْمَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي كُلِّ مَوْجُودٍ خَلَقَهُ، إِذْ مَا خَلَقَ شَيْئًا فِي الْعَالَمِ إِلَّا وَفِيهِ حِكْمَةٌ، وَتَحْتَ الْحِكْمَةِ مَقْصُودٌ، وَذَلِكَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْمَحْبُوبُ.
وَتِلْكَ الْحِكْمَةُ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى جَلِيَّةٍ وَخَفِيَّةٍ: أَمَّا الْجَلِيَّةُ فَكَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي خَلْقِ الشَّمْسِ أَنْ يَحْصُلَ بِهَا الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَيَكُونُ النَّهَارُ مَعَاشًا وَاللَّيْلُ لِبَاسًا فَتَتَيَسَّرُ الْحَرَكَةُ عِنْدَ الْإِبْصَارِ وَالسُّكُونُ عِنْدَ الِاسْتِتَارِ، فَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ حِكَمِ الشَّمْسِ لَا كُلِّ الْحِكَمِ فِيهَا، بَلْ فِيهَا حِكَمٌ أُخْرَى كَثِيرَةٌ دَقِيقَةٌ، وَكَذَلِكَ مَعْرِفَةُ الْحِكْمَةِ فِي الْغَيْمِ وَنُزُولِ الْأَمْطَارِ وَذَلِكَ لِانْشِقَاقِ الْأَرْضِ بِأَنْوَاعِ النَّبَاتِ؛ مَطْعَمًا لِلْخَلْقِ وَمَرْعًى لِلْأَنْعَامِ.
وَقَدِ انْطَوَى الْقُرْآنُ عَلَى جُمْلَةٍ مِنَ الْحِكَمِ الْجَلِيَّةِ الَّتِي تَحْمِلُهَا أَفْهَامُ الْخَلْقِ دُونَ الدَّقِيقِ الَّذِي يَقْصُرُونَ عَنْ فَهْمِهِ؛ إِذْ قَالَ - تَعَالَى -: (أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا) [عَبَسَ: 25 - 28] الْآيَةَ.
وَأَمَّا الْحِكْمَةُ فِي سَائِرِ الْكَوَاكِبِ فَخَفِيَّةٌ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا كَافَّةُ الْخَلْقِ، وَالْقَدْرُ الَّذِي يَحْتَمِلُهُ فَهْمُ الْخَلْقِ أَنَّهَا زِينَةٌ لِلسَّمَاءِ؛ لِتَسْتَلِذَّ الْعَيْنُ بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا، وَأَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ) [الصَّافَّاتِ: 6] فَجَمِيعُ أَجْزَاءِ الْعَالَمِ سَمَاؤُهُ وَكَوَاكِبُهُ وَرِيَاحُهُ وَبِحَارُهُ وَجِبَالُهُ وَمَعَادِنُهُ وَنَبَاتُهُ وَحَيَوَانَاتُهُ وَأَعْضَاءُ حَيَوَانَاتِهِ لَا تَخْلُو ذَرَّةٌ مِنْ ذَرَّاتِهِ عَنْ حِكَمٍ كَثِيرَةٍ مِنْ حِكْمَةٍ وَاحِدَةٍ إِلَى عَشَرٍ إِلَى أَلْفٍ إِلَى عَشَرَةِ آلَافٍ.
وَكَذَا أَعْضَاءُ الْحَيَوَانِ تَنْقَسِمُ إِلَى مَا يُعْرَفُ حِكْمَتُهَا كَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْعَيْنَ لِلْإِبْصَارِ وَالْيَدَ لِلْبَطْشِ وَالرِّجْلَ لِلْمَشْيِ، وَهَكَذَا. فَإِذَنْ كُلُّ مَنِ اسْتَعْمَلَ شَيْئًا فِي جِهَةٍ غَيْرِ الْجِهَةِ الَّتِي خُلِقَ لَهَا وَلَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ فَقَدْ كَفَرَ فِيهِ نِعْمَةَ اللَّهِ - تَعَالَى، فَمَنْ ضَرَبَ غَيْرَهُ بِيَدِهِ فَقَدْ كَفَرَ نِعْمَةَ الْيَدِ إِذْ خُلِقَتْ لَهُ الْيَدُ لِيَدْفَعَ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ مَا يُهْلِكُهُ، وَيَأْخُذَ مَا يَنْفَعُهُ لَا لِيُهْلِكَ بِهَا غَيْرَهُ، وَمَنْ نَظَرَ إِلَى وَجْهِ غَيْرِ الْمَحْرَمِ فَقَدْ كَفَرَ نِعْمَةَ الْعَيْنِ إِذْ خُلِقَتْ لِيُبْصِرَ بِهَا مَا يَنْفَعُهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَيَتَّقِيَ بِهَا مَا يَضُرُّهُ فِيهِمَا.
وَكَذَا مِنْ نِعَمِ اللَّهِ - تَعَالَى - خَلْقُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَبِهِمَا قِوَامُ الدُّنْيَا، وَهُمَا حَجَرَانِ لَا مَنْفَعَةَ فِي أَعْيَانِهِمَا وَلَكِنْ يُضْطَرُّ الْخَلْقُ إِلَيْهِمَا مِنْ حَيْثُ إِنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ مُحْتَاجٌ إِلَى أَعْيَانٍ كَثِيرَةٍ فِي مَطْعَمِهِ وَمَلْبَسِهِ وَسَائِرِ حَاجَاتِهِ، وَقَدْ يَعْجِزُ عَمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَيَمْلِكُ مَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ، فَخُلِقَتْ لِتُقَدَّرَ بِهِمَا الْأَمْوَالُ فَتَتَدَاوَلَهُمَا الْأَيْدِي وَيَكُونَا حَاكِمَيْنِ بَيْنَ الْأَمْوَالِ بِالْعَدْلِ، وَلِحِكْمَةٍ أُخْرَى وَهِيَ التَّوَسُّلُ بِهِمَا إِلَى سَائِرِ الْأَشْيَاءِ، وَلِحِكَمٍ أُخْرَى، فَكُلُّ مَنْ عَمِلَ فِيهِمَا عَمَلًا يُخَالِفُ الْغَرَضَ الْمَقْصُودَ مِنْهُمَا فَقَدْ كَفَرَ نِعْمَةَ اللَّهِ فِيهِمَا، فَإِذَنْ مَنْ كَنَزَهُمَا فَقَدْ ظَلَمَهُمَا وَأَبْطَلَ الْحِكْمَةَ فِيهِمَا.
وَكَذَا مَنْ كَسَرَ غُصْنًا مِنْ شَجَرَةٍ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ نَاجِزَةٍ مُهِمَّةٍ وَمِنْ غَيْرِ غَرَضٍ صَحِيحٍ فَقَدْ كَفَرَ نِعْمَةَ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي خَلْقِ الْأَشْجَارِ وَخَلْقِ الْيَدِ، أَمَّا الْيَدُ فَإِنَّهَا لَمْ تُخْلَقْ لِلْعَبَثِ بَلْ لِلطَّاعَةِ وَالْأَعْمَالِ الْمُعِينَةِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَأَمَّا الشَّجَرُ فَإِنَّمَا خَلَقَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - وَجَعَلَ لَهُ الْعُرُوقَ وَسَاقَ إِلَيْهِ الْمَاءَ وَخَلَقَ فِيهِ قُوَّةَ الِاغْتِذَاءِ وَالنَّمَاءِ لِيَبْلُغَ مُنْتَهَى نُشُوئِهِ فَيَنْتَفِعَ بِهِ عِبَادُهُ، فَكَسْرُهُ قَبْلَ مُنْتَهَى نُشُوئِهِ لَا عَلَى وَجْهٍ يَنْتَفِعُ بِهِ عِبَادُهُ مُخَالَفَةٌ لِمَقْصُودِ الْحِكْمَةِ وَعُدُولٌ عَنِ الْعَدْلِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ غَرَضٌ صَحِيحٌ فَلَهُ ذَلِكَ؛ إِذِ الشَّجَرُ وَالْحَيَوَانُ جُعِلَا فِدَاءً لِأَغْرَاضِ الْإِنْسَانِ، فَإِنَّهُمَا جَمِيعًا فَانِيَانِ هَالِكَانِ فَإِفْنَاءُ الْأَخَسِّ فِي بَقَاءِ الْأَشْرَفِ مُدَّةً مَا أَقْرَبُ إِلَى الْعَدْلِ مِنْ تَضْيِيعِهِمَا جَمِيعًا، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ) [الْجَاثِيَةِ: 13]

الصفحة 286