كتاب موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين
وَبِالْجُمْلَةِ فَمَنْ فَهِمَ حِكْمَةَ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمَوْجُودَاتِ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ بِوَظِيفَةِ الشُّكْرِ، وَاسْتِقْصَاءُ ذَلِكَ يَطُولُ.
السَّبَبُ الصَّارِفُ لِلْخَلْقِ عَنِ الشُّكْرِ
اعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يَقْصُرْ بِالْخَلْقِ عَنْ شُكْرِ النِّعْمَةِ إِلَّا الْجَهْلُ وَالْغَفْلَةُ، فَإِنَّهُمْ مُنِعُوا بِالْجَهْلِ وَالْغَفْلَةِ عَنْ مَعْرِفَةِ النِّعَمِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ شُكْرُ النِّعْمَةِ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَتِهَا. ثُمَّ إِنَّهُمْ إِنْ عَرَفُوا نِعْمَةً ظَنُّوا أَنَّ الشُّكْرَ عَلَيْهَا أَنْ يَقُولَ بِلِسَانِهِ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الشُّكْرُ لِلَّهِ» ، وَلَمْ يَعْرِفُوا أَنَّ مَعْنَى الشُّكْرِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ النِّعْمَةَ فِي إِتْمَامِ الْحِكْمَةِ الَّتِي أُرِيدَتْ بِهَا وَهِيَ طَاعَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَا يَمْنَعُ مِنَ الشُّكْرِ بَعْدَ حُصُولِ هَاتَيْنِ الْمَعْرِفَتَيْنِ إِلَّا غَلَبَةُ الشَّهْوَةِ وَاسْتِيلَاءُ الشَّيْطَانِ.
مَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الصَّبْرُ وَالشُّكْرُ
اعْلَمْ أَنَّهُ مَا مِنْ نِعْمَةٍ مِنَ النِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ إِلَّا وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَلَاءً بِالْإِضَافَةِ، وَنِعْمَةً كَذَلِكَ، فَرُبَّ عَبْدٍ تَكُونُ لَهُ الْخَيْرَةُ فِي الْفَقْرِ وَالْمَرَضِ وَلَوْ صَحَّ بَدَنُهُ وَكَثُرَ مَالُهُ لَبَطِرَ وَبَغَى، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) [الشُّورَى: 27] وَقَالَ - تَعَالَى -: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) [الْعَلَقِ: 6 وَ 7] ، وَكَذَلِكَ الزَّوْجَةُ وَالْوَلَدُ وَالْقَرِيبُ وَأَمْثَالُهَا؛ فَإِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا إِلَّا وَفِيهِ حِكْمَةٌ وَنِعْمَةٌ أَيْضًا.
فَإِذَنْ فِي خَلْقِ اللَّهِ - تَعَالَى - الْبَلَاءُ نِعْمَةٌ أَيْضًا إِمَّا عَلَى الْمُبْتَلَى أَوْ عَلَى غَيْرِ الْمُبْتَلَى، فَإِذَنْ كُلُّ حَالَةٍ لَا تُوصَفُ بِأَنَّهَا بَلَاءٌ مُطْلَقٌ، وَلَا نِعْمَةٌ مُطْلَقَةٌ فَيَجْتَمِعُ فِيهَا عَلَى الْعَبْدِ وَظِيفَتَانِ: الصَّبْرُ وَالشُّكْرُ جَمِيعًا.
فَإِنْ قُلْتَ: فَهُمَا مُتَضَادَّانِ فَكَيْفَ يَجْتَمِعَانِ إِذْ لَا صَبْرَ إِلَّا عَلَى غَمٍّ، وَلَا شُكْرَ إِلَّا عَلَى فَرَحٍ؟ فَاعْلَمْ أَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ قَدْ يُغْتَمُّ بِهِ مِنْ وَجْهٍ وَيُفْرَحُ بِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَيَكُونُ الصَّبْرُ مِنْ حَيْثُ الِاغْتِمَامُ وَالشُّكْرُ مِنْ حَيْثُ الْفَرَحُ، وَفِي كُلِّ فَقْرٍ وَمَرَضٍ وَخَوْفٍ وَبَلَاءٍ فِي الدُّنْيَا خَمْسَةُ أُمُورٍ يَنْبَغِي أَنْ يَفْرَحَ الْعَاقِلُ بِهَا وَيَشْكُرَ عَلَيْهَا:
أَحَدُهَا: أَنَّ كُلَّ مُصِيبَةٍ وَمَرَضٍ فَيُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ أَكْبَرَ مِنْهَا، إِذْ مَقْدُورَاتُ اللَّهِ - تَعَالَى - لَا تَتَنَاهَى، فَلَوْ ضَعَّفَهَا اللَّهُ وَزَادَهَا مَاذَا كَانَ يَرُدُّهُ وَيَحْجِزُهُ؟ فَلْيَشْكُرْ إِذْ لَمْ تَكُنْ أَعْظَمَ مِنْهَا فِي الدُّنْيَا.
الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مُصِيبَتُهُ فِي دِينِهِ، وَفِي الْخَبَرِ: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا» .
الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَا مِنْ عُقُوبَةٍ إِلَّا وَيُتَصَوَّرُ أَنْ تُؤَخَّرَ إِلَى الْآخِرَةِ، وَمَصَائِبُ الدُّنْيَا يُتَسَلَّى عَنْهَا بِأَسْبَابٍ أُخَرَ، تَهُونُ الْمُصِيبَةُ فَيَخِفُّ وَقْعُهَا، وَمُصِيبَةُ الْآخِرَةِ تَدُومُ، فَلَعَلَّهُ لَمْ تُؤَخَّرْ عُقُوبَتُهُ إِلَى الْآخِرَةِ وَعُجِّلَتْ عُقُوبَتُهُ فِي الدُّنْيَا، فَلِمَ لَا يَشْكُرُ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ؟
الصفحة 287
416