كتاب موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين

يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ تَكُونُ قُوَّةُ خَوْفِهِ.
فَأَخْوَفُ النَّاسِ لِرَبِّهِ أَعْرَفُهُمْ بِنَفْسِهِ وَبِرَبِّهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَا أَخْوَفُكُمُ لِلَّهِ» وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فَاطِرٍ: 28] ثُمَّ إِذَا كَمُلَتِ الْمَعْرِفَةُ أَوْرَثَتْ جَلَالَ الْخَوْفِ وَاحْتِرَاقَ الْقَلْبِ، ثُمَّ يَفِيضُ أَثَرُ الْحُرْقَةِ مِنَ الْقَلْبِ عَلَى الْبَدَنِ وَعَلَى الْجَوَارِحِ وَعَلَى الصِّفَاتِ: أَمَّا فِي الْبَدَنِ فَبِالنُّحُولِ وَالْبُكَاءِ، وَأَمَّا فِي الْجَوَارِحِ فَبِكَفِّهَا عَنِ الْمَعَاصِي وَتَقْيِيدِهَا بِالطَّاعَاتِ تَلَافِيًا لِمَا فَرَطَ وَاسْتِعْدَادًا لِلْمُسْتَقْبَلِ، وَأَمَّا فِي الصِّفَاتِ فَبِأَنْ يَقْمَعَ الشَّهَوَاتِ وَيُكَدِّرَ اللَّذَّاتِ فَتَصِيرَ الْمَعَاصِي الْمَحْبُوبَةُ عِنْدَهُ مَكْرُوهَةً كَمَا يَصِيرُ الْعَسَلُ مَكْرُوهًا عِنْدَ مَنْ يَشْتَهِيهِ إِذَا عَرَفَ أَنَّ فِيهِ سُمًّا، فَتَحْتَرِقُ الشَّهَوَاتُ بِالْخَوْفِ، وَتَتَأَدَّبُ الْجَوَارِحُ، وَيَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ الذُّبُولُ وَالْخُشُوعُ وَالِاسْتِكَانَةُ، وَيُفَارِقُهُ الْكِبْرُ وَالْحِقْدُ وَالْحَسَدُ، وَلَا يَكُونُ لَهُ شُغْلٌ إِلَّا الْمُرَاقَبَةُ وَالْمُحَاسَبَةُ وَالْمُجَاهَدَةُ وَالضِّنَّةُ بِالْأَنْفَاسِ وَاللَّحَظَاتِ، وَمُؤَاخَذَةُ النَّفْسِ بِالْخَطَرَاتِ وَالْخُطُوَاتِ وَالْكَلِمَاتِ.
وَمَا وَرَدَ فِي فَضِيلَةِ الْخَوْفِ خَارِجٌ عَنِ الْحَصْرِ، وَنَاهِيكَ دَلَالَةً عَلَى فَضِيلَتِهِ جَمْعُ اللَّهِ - تَعَالَى - لِلْخَائِفِينَ الْهُدَى وَالرَّحْمَةَ وَالْعِلْمَ وَالرِّضْوَانَ وَهِيَ مَجَامِعُ مَقَامَاتِ أَهْلِ الْجِنَانِ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) [الْأَعْرَافِ: 154] وَقَالَ - تَعَالَى -: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) [الْبَيِّنَةِ: 8] وَكُلُّ مَا دَلَّ عَلَى فَضِيلَةِ الْعِلْمِ دَلَّ عَلَى فَضِيلَةِ الْخَوْفِ؛ لِأَنَّ الْخَوْفَ ثَمَرَةُ الْعِلْمِ.

الدَّوَاءُ الَّذِي يُسْتَجْلَبُ بِهِ الْخَوْفُ
اعْلَمْ أَنَّ مَنْ قَعَدَ بَعْدَ الْقُصُورِ عَنِ الِارْتِفَاعِ إِلَى مَقَامِ الِاسْتِبْصَارِ فَسَبِيلُهُ أَنْ يُعَالِجَ نَفْسَهُ بِسَمَاعِ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ فَيُطَالِعَ أَحْوَالَ الْخَائِفِينَ وَأَقْوَالَهُمْ وَيَنْسُبَ عُقُولَهُمْ وَمَنَاصِبَهُمْ إِلَى مَنَاصِبِ الرَّاجِينَ الْمَغْرُورِينَ، فَلَا يَتَمَارَى فِي أَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِهِمْ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْأَوْلِيَاءُ وَالْعُلَمَاءُ، وَأَمَّا الْآمِنُونَ فَهُمُ الْفَرَاعِنَةُ وَالْجُهَّالُ وَالْأَغْبِيَاءُ، أَمَّا رَسُولُنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ سَيِّدُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَكَانَ أَشَدَّ النَّاسِ خَوْفًا، حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ سَمِعَ قَائِلًا يَقُولُ لِطِفْلٍ مَاتَ: " هَنِيئًا لَكَ، عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الْجَنَّةِ " فَغَضِبَ وَقَالَ: "مَا يُدْرِيكَ أَنَّهُ كَذَلِكَ، وَاللَّهِ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَمَا أَدْرِي مَا يُصْنَعُ بِي، إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْجَنَّةَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلًا لَا يُزَادُ فِيهِمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ " وَرُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ ذَلِكَ أَيْضًا عَلَى جِنَازَةِ " عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ " وَكَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ لَمَّا قَالَتْ " أم سلمة ": "هَنِيئًا لَكَ الْجَنَّةُ " فَكَانَتْ تَقُولُ " أم سلمة " بَعْدَ ذَلِكَ: "وَاللَّهِ لَا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَ عثمان " وَرُوِيَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ اسْتُشْهِدَ فَقَالَتْ أُمُّهُ: "هَنِيئًا لَكَ، هَاجَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقُتِلْتَ فِي

الصفحة 291