كتاب موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين
كِتَابُ النِّيَّةِ وَالْإِخْلَاصِ وَالصِّدْقِ
فَضِيلَةُ النِّيَّةِ:
قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الْأَنْعَامِ: 52] وَقَالَ - تَعَالَى -: (إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا) [النِّسَاءِ: 35] وَالْمُرَادُ بِتِلْكَ الْإِرَادَةِ هِيَ النِّيَّةُ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» .
وَفِي حَدِيثِ «أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ» لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ قَالَ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا قَطَعْنَا وَادِيًا وَلَا وَطِئْنَا مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا أَنْفَقْنَا نَفَقَةً وَلَا أَصَابَتْنَا مَخْمَصَةٌ إِلَّا شَرِكُونَا فِي ذَلِكَ وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ» قَالُوا: «وَكَيْفَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَيْسُوا مَعَنَا» ؟ قَالَ: «حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ» فَشَرِكُوا بِحُسْنِ النِّيَّةِ.
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ» .
وَفِي حَدِيثِ «أَبِي هُرَيْرَةَ» : «مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى صَدَاقٍ وَهُوَ لَا يَنْوِي أَدَاءَهُ فَهُوَ زَانٍ، وَمَنِ ادَّانَ دَيْنًا وَهُوَ لَا يَنْوِي قَضَاءَهُ فَهُوَ سَارِقٌ» .
تَفْضِيلُ الْأَعْمَالِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنِّيَّةِ:
اعْلَمْ أَنَّ الْأَعْمَالَ تَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: طَاعَاتٌ وَمَعَاصٍ وَمُبَاحَاتٌ.
فَأَمَّا الْمَعَاصِي: فَلَا تَتَغَيَّرُ عَنْ مَوْضِعِهَا بِالنِّيَّةِ، أَعْنِي أَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تَنْقَلِبُ طَاعَةً بِالنِّيَّةِ، كَالَّذِي يَغْتَابُ إِنْسَانًا مُرَاعَاةً لِقَلْبِ غَيْرِهِ، أَوْ يُطْعِمُ فَقِيرًا مِنْ مَالِ غَيْرِهِ، أَوْ يَبْنِي مَدْرَسَةً أَوْ مَسْجِدًا بِمَالٍ حَرَامٍ وَقَصْدُهُ الْخَيْرُ، فَهَذَا كُلُّهُ جَهْلٌ وَالنِّيَّةُ لَا تُؤَثِّرُ فِي إِخْرَاجِهِ عَنْ كَوْنِهِ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا وَمَعْصِيَةً، بَلْ قَصْدُهُ الْخَيْرَ بِالشَّرِّ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الشَّرْعِ شَرٌّ آخَرُ، فَإِنْ عَرَفَهُ فَهُوَ مُعَانِدٌ لِلشَّرْعِ، وَإِنْ جَهِلَهُ فَهُوَ عَاصٍ بِجَهْلِهِ؛ إِذْ طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَالْخَيْرَاتُ إِنَّمَا يُعْرَفُ كَوْنُهَا خَيْرَاتٍ بِالشَّرْعِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الشَّرُّ خَيْرًا؟ هَيْهَاتَ، وَلِذَلِكَ قَالَ " سهل " رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى -: "مَا عُصِيَ اللَّهُ بِمَعْصِيَةٍ أَعْظَمَ مِنَ الْجَهْلِ " قِيلَ: يَا أبا محمد هَلْ تَعْرِفُ
الصفحة 299
416