كتاب موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين

شَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غِبْتُ عَنْهُ؟ أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ أَرَانِي اللَّهُ مَشْهَدًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ» قَالَ: فَشَهِدَ أُحُدًا فِي الْعَامِ الْقَابِلِ فَاسْتَقْبَلَهُ «سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ» فَقَالَ: «إِلَى أَيْنَ» ؟ فَقَالَ: «وَاهًا لِرِيحِ الْجَنَّةِ إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا دُونَ أُحُدٍ» فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَوُجِدَ فِي جَسَدِهِ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ مَا بَيْنَ رَمْيَةٍ وَضَرْبَةٍ وَطَعْنَةٍ، فَقَالَتْ أُخْتُهُ: مَا عَرَفْتُ أَخِي إِلَّا بِثِيَابِهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: (رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) .
وَقَالَ «مجاهد» : «رَجُلَانِ خَرَجَا عَلَى مَلَأٍ مِنَ النَّاسِ قُعُودٍ» فَقَالَا: إِنْ رَزَقَنَا اللَّهُ - تَعَالَى - مَالًا لَنَصَّدَّقَنَّ، فَبَخِلُوا بِهِ فَنَزَلَتْ: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) [التَّوْبَةِ: 75 - 77] فَجَعَلَ الْعَزْمَ عَهْدًا، وَجَعَلَ الْخُلْفَ فِيهِ كَذِبًا وَالْوَفَاءَ بِهِ صِدْقًا.
الْخَامِسَةُ الصِّدْقُ فِي الْأَعْمَالِ: وَهُوَ أَنْ يَجْتَهِدَ حَتَّى لَا تَدُلَّ أَعْمَالُهُ الظَّاهِرَةُ عَلَى أَمْرٍ فِي بَاطِنِهِ لَا يَتَّصِفُ هُوَ بِهِ، فَمَنْ وَقَفَ عَلَى هَيْئَةِ الْخُشُوعِ فِي صَلَاتِهِ لِيُرَائِيَ غَيْرَهُ، وَلَكِنَّهُ فِي الْبَاطِنِ قَائِمٌ فِي السُّوقِ بَيْنَ يَدَيْ شَهْوَةٍ مِنْ شَهَوَاتِهِ؛ فَهُوَ كَاذِبٌ بِلِسَانِ الْحَالِ فِي عَمَلِهِ غَيْرُ صَادِقٍ فِيهِ، فَالصِّدْقُ فِيهِ هُوَ اسْتِوَاءُ السَّرِيرَةِ وَالْعَلَانِيَةِ بِأَنْ يَكُونَ بَاطِنُهُ مِثْلَ ظَاهِرِهِ أَوْ خَيْرًا مِنْ ظَاهِرِهِ.
إِذَا السِّرُّ وَالْإِعْلَانُ فِي الْمُؤْمِنِ اسْتَوَى ... فَقَدْ عَزَّ فِي الدَّارَيْنِ وَاسْتَوْجَبَ الثَّنَا
فَإِنْ خَالَفَ الْإِعْلَانُ سِرًّا فَمَا لَهُ ... عَلَى سَعْيِهِ فَضْلٌ سِوَى الْكَذِبِ وَالْعَنَا
ثُمَّ دَرَجَاتُ الصِّدْقِ لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَقَدْ يَكُونُ لِلْعَبْدِ صِدْقٌ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ دُونَ بَعْضٍ، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِي الْجَمِيعِ فَهُوَ الصِّدِّيقُ حَقًّا.

الصفحة 304