كتاب موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين
أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ نُطْفَةٍ قَذِرَةٍ فَقَالَ: (قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ) [عَبَسَ: 17 - 22] وَقَالَ تَعَالَى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) [الرُّومِ: 20] وَقَالَ تَعَالَى: (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى) [الْقِيَامَةِ: 37، 38] وَقَالَ تَعَالَى: (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) [الْمُرْسَلَاتِ: 20 - 22] ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى كَيْفَ جَعَلَ النُّطْفَةَ عَلَقَةً وَالْعَلَقَةَ مُضْغَةً وَالْمُضْغَةَ عِظَامًا فَقَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) [الْمُؤْمِنُونَ: 12 - 14] الْآيَةَ، فَتَكْرِيرُ ذِكْرِ النُّطْفَةِ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ لَيْسَ لِيُسْمَعَ لَفْظُهُ وَيُتْرَكَ التَّفَكُّرُ فِي مَعْنَاهُ. فَانْظُرِ الْآنَ إِلَى النُّطْفَةِ وَهِيَ قَطْرَةٌ مِنَ الْمَاءِ قَذِرَةٌ لَوْ تُرِكَتْ سَاعَةً لِيَضْرِبَهَا الْهَوَاءُ فَسَدَتْ وَأَنْتَنَتْ: كَيْفَ أَخْرَجَهَا رَبُّ الْأَرْبَابِ مِنَ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ [الطَّارِقِ: 7] ، وَكَيْفَ جَمَعَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَأَلْقَى الْأُلْفَةَ وَالْمَحَبَّةَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَكَيْفَ قَادَهُمْ بِسِلْسِلَةِ الْمَحَبَّةِ وَالشَّهْوَةِ إِلَى الِاجْتِمَاعِ، وَكَيْفَ اسْتَخْرَجَ النُّطْفَةَ مِنَ الرَّجُلِ بِحَرَكَةِ الْوِقَاعِ، وَكَيْفَ اسْتَجْلَبَ دَمَ الْحَيْضِ مِنْ أَعْمَاقِ الْعُرُوقِ وَجَمَعَهُ فِي الرَّحِمِ، ثُمَّ كَيْفَ خَلَقَ الْمَوْلُودَ مِنَ النُّطْفَةِ وَسَقَاهُ بِمَاءِ الْحَيْضِ وَغَذَّاهُ حَتَّى نَمَا وَكَبُرَ، وَكَيْفَ جَعَلَ النُّطْفَةَ وَهِيَ بَيْضَاءُ مُشْرِقَةٌ عَلَقَةً حَمْرَاءَ، ثُمَّ كَيْفَ جَعَلَهَا مُضْغَةً، ثُمَّ كَيْفَ قَسَّمَ أَجْزَاءَ النُّطْفَةِ وَهِيَ مُتَشَابِهَةٌ مُتَسَاوِيَةٌ إِلَى الْعِظَامِ وَالْأَعْصَابِ وَالْعُرُوقِ وَالْأَوْتَارِ وَاللَّحْمِ، ثُمَّ كَيْفَ رَكَّبَ مِنَ اللُّحُومِ وَالْأَعْصَابِ وَالْعُرُوقِ الْأَعْضَاءَ الظَّاهِرَةَ: فَدَوَّرَ الرَّأْسَ، وَشَقَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْأَنْفَ وَالْفَمَ وَسَائِرَ الْمَنَافِذِ، ثُمَّ مَدَّ الْيَدَ وَالرِّجْلَ وَقَسَّمَ رُؤُوسَهَا بِالْأَصَابِعِ وَقَسَّمَ الْأَصَابِعَ بِالْأَنَامِلِ، ثُمَّ كَيْفَ رَكَّبَ الْأَعْضَاءَ الْبَاطِنَةَ مِنَ الْقَلْبِ وَالْمَعِدَةِ وَالْكَبِدِ وَالطِّحَالِ وَالرِّئَةِ وَالرَّحِمِ وَالْمَثَانَةِ وَالْأَمْعَاءِ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى شَكْلٍ مَخْصُوصٍ وَمِقْدَارٍ مَخْصُوصٍ لِعَمَلٍ مَخْصُوصٍ ; وَفِي آحَادِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ مِنَ الْعَجَائِبِ وَالْآيَاتِ مَا لَوْ ذَهَبْنَا إِلَى وَصْفِهَا لَانْقَضَى فِيهَا الْأَعْمَارُ.
فَانْظُرِ الْآنَ إِلَى الْعِظَامِ وَهِيَ أَجْسَامٌ صُلْبَةٌ قَوِيَّةٌ كَيْفَ خَلَقَهَا مِنْ نُطْفَةٍ سَخِيفَةٍ رَقِيقَةٍ ثُمَّ جَعَلَهَا قِوَامًا لِلْبَدَنِ وَعِمَادًا لَهُ، ثُمَّ قَدَّرَهَا بِمَقَادِيرَ مُخْتَلِفَةٍ وَأَشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَمِنْهُ صَغِيرٌ وَكَبِيرٌ، وَطَوِيلٌ وَمُسْتَدِيرٌ، وَمُجَوَّفٌ وَمُصْمَتٌ، وَعَرِيضٌ وَدَقِيقٌ. وَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ مُحْتَاجًا إِلَى الْحَرَكَةِ بِجُمْلَةِ بَدَنِهِ وَبِبَعْضِ أَعْضَائِهِ مُفْتَقِرًا لِلتَّرَدُّدِ فِي حَاجَتِهِ لَمْ يَجْعَلْ عَظْمَهُ عَظْمًا وَاحِدًا، بَلْ عِظَامًا كَثِيرَةً بَيْنَهَا مَفَاصِلُ حَتَّى تَتَيَسَّرَ بِهَا الْحَرَكَةُ، وَقَدَّرَ شَكْلَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا عَلَى وَفْقِ الْحَرَكَةِ الْمَطْلُوبَةِ بِهَا، ثُمَّ وَصَلَ مَفَاصِلَهَا، وَرَبَطَ بَعْضَهَا بِأَوْتَارٍ أَنْبَتَهَا مِنْ أَحَدِ طَرَفَيِ الْعَظْمِ، وَأَلْصَقَهُ بِالْعَظْمِ الْآخَرِ كَالرِّبَاطِ لَهُ، ثُمَّ خَلَقَ فِي أَحَدِ طَرَفَيِ الْعَظْمِ زَوَائِدَ خَارِجَةً مِنْهُ، وَفِي الْآخَرِ حُفَرًا غَائِصَةً فِيهِ مُوَافِقَةً لِشَكْلِ الزَّوَائِدِ لِتَدْخُلَ فِيهَا وَتَنْطَبِقَ عَلَيْهَا، فَصَارَ الْإِنْسَانُ إِنْ أَرَادَ تَحْرِيكَ جُزْءٍ مِنْ بَدَنِهِ لَمْ يَمْتَنِعْ عَلَيْهِ، وَلَوْلَا الْمَفَاصِلُ لَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ. ثُمَّ انْظُرْ كَيْفَ خَلَقَ عِظَامَ الرَّأْسِ، وَكَيْفَ جَمَعَهَا وَرَكَّبَهَا فَأَلَّفَ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ بِحَيْثُ اسْتَوَى بِهِ كُرَةُ الرَّأْسِ كَمَا تَرَاهُ،
الصفحة 313
416