كتاب موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين
أَعْجَزَ الْخَلْقِ عَنْ تَدْبِيرِ نَفْسِهِ. ثُمَّ انْظُرْ كَيْفَ رَزَقَهُ الْقُدْرَةَ وَالتَّمْيِيزَ وَالْعَقْلَ وَالْهِدَايَةَ تَدْرِيجًا حَتَّى بَلَغَ وَتَكَامَلَ فَصَارَ مُرَاهِقًا، ثُمَّ شَابًّا ثُمَّ كَهْلًا، ثُمَّ شَيْخًا إِمَّا كَفُورًا أَوْ شَكُورًا، مُطِيعًا أَوْ عَاصِيًا، مُؤْمِنًا أَوْ كَافِرًا تَصْدِيقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) [الْإِنْسَانِ: 1 - 3] فَانْظُرْ إِلَى اللُّطْفِ وَالْكَرَمِ ثُمَّ إِلَى الْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ تَبْهَرْكَ عَجَائِبُ الْحَضْرَةِ الرَّبَّانِيَّةِ. وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِمَّنْ يَرَى خَطًّا حَسَنًا أَوْ نَقْشًا حَسَنًا عَلَى حَائِطٍ فَيَسْتَحْسِنُهُ فَيَصْرِفُ جَمِيعَ هِمَّتِهِ إِلَى التَّفَكُّرِ فِي النَّقَّاشِ وَالْخَطَّاطِ، وَأَنَّهُ كَيْفَ نَقَشَهُ وَخَطَّهُ وَكَيْفَ اقْتَدَرَ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ يَسْتَعْظِمُهُ فِي نَفْسِهِ وَيَقُولُ: مَا أَحْذَقَهُ وَمَا أَكْمَلَ صَنْعَتَهُ وَأَحْسَنَ قُدْرَتَهُ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى هَذِهِ الْعَجَائِبِ فِي نَفْسِهِ وَفِي غَيْرِهِ ثُمَّ يَغْفُلُ عَنْ صَانِعِهِ وَمُصَوِّرِهِ فَلَا يُدْهِشُهُ عَظَمَتُهُ وَلَا يُحَيِّرُهُ جَلَالُهُ وَحِكْمَتُهُ.
فَهَذِهِ نُبْذَةٌ مِنْ عَجَائِبِ بَدَنِكَ الَّتِي لَا يُمْكِنُ اسْتِقْصَاؤُهَا فَهُوَ أَقْرَبُ مَجَالٍ لِفِكْرِكَ، وَأَجْلَى شَاهِدٍ عَلَى عَظَمَةِ خَالِقِكَ، وَأَنْتَ غَافِلٌ عَنْ ذَلِكَ مَشْغُولٌ بِبَطْنِكَ وَفَرْجِكَ، لَا تَعْرِفُ مِنْ نَفْسِكَ إِلَّا أَنْ تَجُوعَ فَتَأْكُلَ وَتَشْبَعَ فَتَنَامَ وَتَشْتَهِيَ فَتُجَامِعَ وَتَغْضَبَ فَتُقَاتِلَ، وَالْبَهَائِمُ تُشَارِكُكَ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا خَاصِّيَّةُ الْإِنْسَانِ الَّتِي حُجِبَتِ الْبَهَائِمُ عَنْهَا مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّظَرِ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَجَائِبِ الْآفَاقِ وَالْأَنْفُسِ، إِذْ بِهَا يَدْخُلُ الْعَبْدُ فِي زُمْرَةِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، وَيُحْشَرُ فِي زُمْرَةِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ مُقَرَّبًا مِنْ حَضْرَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمَنْزِلَةُ لِلْبَهَائِمِ وَلَا لِإِنْسَانٍ رَضِيَ مِنَ الدُّنْيَا بِشَهَوَاتِ الْبَهَائِمِ فَإِنَّهُ شَرٌّ مِنَ الْبَهَائِمِ بِكَثِيرٍ إِذْ لَا قُدْرَةَ لِلْبَهِيمَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَّا هُوَ فَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ لَهُ الْقُدْرَةَ ثُمَّ عَطَّلَهَا وَكَفَرَ نِعْمَةَ اللَّهِ فِيهَا، فَأُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الْفُرْقَانِ: 44] . وَإِذَا عَرَفْتَ طَرِيقَ الْفِكْرِ فِي نَفْسِكَ فَتَفَكَّرْ فِي الْأَرْضِ الَّتِي هِيَ مَقَرُّكَ، ثُمَّ فِي أَنْهَارِهَا وَبِحَارِهَا وَجِبَالِهَا وَمَعَادِنِهَا، ثُمَّ ارْتَفِعْ مِنْهَا إِلَى مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ.
آيَةُ الْأَرْضِ
مِنْ آيَاتِهِ تَعَالَى أَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَمِهَادًا، وَسَلَكَ فِيهَا سُبُلًا فِجَاجًا، وَجَعَلَهَا ذَلُولًا لِتَمْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا، وَجَعَلَهَا قَارَّةً لَا تَتَحَرَّكُ، وَأَرْسَى فِيهَا الْجِبَالَ أَوْتَادًا لَهَا تَمْنَعُهَا مِنْ أَنْ تَمِيدَ، ثُمَّ وَسَّعَ أَكْنَافَهَا حَتَّى عَجَزَ الْآدَمِيُّونَ عَنْ بُلُوغِ جَمِيعِ جَوَانِبِهَا. وَقَدْ أَكْثَرَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ مِنْ ذِكْرِ الْأَرْضِ لِيُتَفَكَّرَ فِي عَجَائِبِهَا، فَظَهْرُهَا مَقَرُّ الْأَحْيَاءِ، وَبَطْنُهَا مَرْقَدُ الْأَمْوَاتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا) [الْمُرْسَلَاتِ: 25، 26] فَانْظُرْ إِلَى الْأَرْضِ وَهِيَ مَيْتَةٌ فَإِذَا أَنْزَلَنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَاخْضَرَّتْ وَأَنْبَتَتْ عَجَائِبَ النَّبَاتِ [الْحَجِّ: 5] وَخَرَجَتْ مِنْهَا أَصْنَافُ الْحَيَوَانَاتِ، ثُمَّ انْظُرْ كَيْفَ أَحْكَمَ جَوَانِبَ الْأَرْضِ بِالْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ الشَّوَامِخِ الصُّمِّ الصِّلَابِ، وَكَيْفَ أَوْدَعَ الْمِيَاهَ تَحْتَهَا فَفَجَّرَ الْعُيُونَ وَأَسَالَ الْأَنْهَارَ تَجْرِي عَلَى وَجْهِهَا، وَأَخْرَجَ مِنَ الْحِجَارَةِ الْيَابِسَةِ وَمِنَ التُّرَابِ الْكَدِرِ مَاءً رَقِيقًا صَافِيًا زُلَالًا، وَجَعَلَ بِهِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الْأَنْبِيَاءِ: 30] فَأَخْرَجَ بِهِ فُنُونَ الْأَشْجَارِ وَالنَّبَاتِ مِنْ حَبٍّ وَعِنَبٍ وَقَضْبٍ وَزَيْتُونٍ
الصفحة 316
416