كتاب موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين
وَنَخْلٍ وَرُمَّانٍ وَفَوَاكِهَ كَثِيرَةٍ لَا تُحْصَى مُخْتَلِفَةِ الْأَشْكَالِ وَالْأَلْوَانِ وَالطُّعُومِ وَالصِّفَاتِ وَالرَّوَائِحِ يُفَضَّلُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ، تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَتُخْرَجُ مِنْ أَرْضٍ وَاحِدَةٍ. فَإِنْ قُلْتَ: «إِنَّ اخْتِلَافَهَا بِاخْتِلَافِ بُذُورِهَا وَأُصُولِهَا» فَمَتَى كَانَ فِي النَّوَاةِ نَخْلَةٌ مُطَوَّقَةٌ بِعَنَاقِيدِ الرُّطَبِ؟ وَمَتَى كَانَ فِي حَبَّةٍ وَاحِدَةٍ سَبْعُ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ؟ ثُمَّ انْظُرْ إِلَى أَرْضِ الْبَوَادِي وَفَتِّشْ ظَاهِرَهَا وَبَاطِنَهَا فَتَرَاهَا تُرَابًا مُتَشَابِهًا، فَإِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهَا الْمَاءُ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجِ بَهِيجٍ أَلْوَانًا مُخْتَلِفَةً وَنَبَاتًا مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ، لِكُلِّ وَاحِدٍ طَعْمٌ وَرِيحٌ وَلَوْنٌ وَشَكْلٌ يُخَالِفُ الْآخَرَ، فَانْظُرْ إِلَى كَثْرَتِهَا وَاخْتِلَافِ أَصْنَافِهَا وَكَثْرَةِ أَشْكَالِهَا، ثُمَّ اخْتِلَافِ طَبَائِعِ النَّبَاتِ وَكَثْرَةِ مَنَافِعِهِ، وَكَيْفَ أَوْدَعَ اللَّهُ تَعَالَى الْعَقَاقِيرَ الْمَنَافِعَ الْغَرِيبَةَ: فَهَذَا النَّبَاتُ يُغَذِّي، وَهَذَا يُقَوِّي، وَهَذَا يُحْيِي، وَهَذَا يَقْتُلُ، وَهَذَا يُبَرِّدُ، وَهَذَا يُسَخِّنُ، وَهَذَا يُفَرِّحُ، وَهَذَا يُنَوِّمُ، فَلَمْ تَنْبُتْ مِنَ الْأَرْضِ وَرَقَةٌ وَلَا نَبْتَةٌ إِلَّا وَفِيهَا مَنَافِعُ لَا يَقْوَى الْبَشَرُ عَلَى الْوُقُوفِ عَلَى كُنْهِهَا. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَا النَّبَاتِ يَحْتَاجُ الْفَلَّاحُ فِي تَرْبِيَتِهِ إِلَى عَمَلٍ مَخْصُوصٍ. وَلَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَذْكُرَ اخْتِلَافَ أَجْنَاسِ النَّبَاتِ وَأَنْوَاعِهِ وَمَنَافِعِهِ وَأَحْوَالِهِ وَعَجَائِبِهِ لَانْقَضَتِ الْأَيَّامُ فِي وَصْفِ ذَلِكَ فَيَكْفِيكَ مِنْ كُلٍّ نُبْذَةٌ يَسِيرَةٌ تَدُلُّ عَلَى طَرِيقِ الْفِكْرِ. فَهَذِهِ عَجَائِبُ النَّبَاتِ.
آيَةُ أَصْنَافِ الْحَيَوَانَاتِ
اعْلَمْ أَنَّ مِنْ آيَاتِهِ تَعَالَى أَصْنَافَ الْحَيَوَانَاتِ وَانْقِسَامَهَا إِلَى مَا يَطِيرُ وَإِلَى مَا يَمْشِي، وَانْقِسَامَ مَا يَمْشِي إِلَى مَا يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَعَلَى أَرْبَعٍ وَعَلَى عَشْرٍ وَعَلَى مِائَةٍ كَمَا يُشَاهَدُ فِي بَعْضِ الْحَشَرَاتِ، ثُمَّ انْقِسَامَهَا فِي الْمَنَافِعِ وَالصُّوَرِ وَالْأَشْكَالِ وَالْأَخْلَاقِ وَالطِّبَاعِ. فَانْظُرْ إِلَى طُيُورِ الْجَوِّ وَإِلَى وُحُوشِ الْبَرِّ وَإِلَى الْبَهَائِمِ الْأَهْلِيَّةِ تَرَى فِيهَا مِنَ الْعَجَائِبِ مَا لَا تَشُكُّ مَعَهُ فِي عَظَمَةِ خَالِقِهَا وَقُدْرَةِ مُقَدِّرِهَا وَحِكْمَةِ مُصَوِّرِهَا، وَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَقْصَى ذَلِكَ؟ بَلْ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَذْكُرَ عَجَائِبَ الْبَقَّةِ أَوِ النَّمْلَةِ أَوِ النَّحْلَةِ أَوِ الْعَنْكَبُوتِ وَهِيَ مِنْ صِغَارِ الْحَيَوَانَاتِ فِي بِنَائِهَا بَيْتَهَا وَفِي جَمْعِهَا غِذَاءَهَا، وَفِي إِلْفِهَا لِزَوْجِهَا، وَفِي ادِّخَارِهَا لِنَفْسِهَا، وَفِي حِذْقِهَا فِي هَنْدَسَةِ بَيْتِهَا، وَفِي هِدَايَتِهَا إِلَى حَاجَاتِهَا لَمْ نَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ، وَكُلٌّ يَشْهَدُ بِشَكْلِهِ وَصُورَتِهِ وَحَرَكَتِهِ وَهِدَايَتِهِ وَعَجَائِبِ صَنْعَتِهِ لِفَاطِرِهِ الْحَكِيمِ وَخَالِقِهِ الْقَادِرِ الْعَلِيمِ، فَالْبَصِيرُ يَرَى فِي هَذَا الْحَيَوَانِ الصَّغِيرِ مِنْ عَظَمَةِ الْخَالِقِ الْمُدَبِّرِ وَجَلَالِهِ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ مَا تَتَحَيَّرُ فِيهِ الْأَلْبَابُ وَالْعُقُولُ فَضْلًا عَنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ.
وَهَذَا الْبَابُ أَيْضًا لَا حَصْرَ لَهُ، فَإِنَّ الْحَيَوَانَاتِ وَأَشْكَالَهَا وَطِبَاعَهَا غَيْرُ مَحْصُورَةٍ، وَإِنَّمَا سَقَطَ تَعَجُّبُ الْقُلُوبِ مِنْهَا لِأُنْسِهَا بِكَثْرَةِ الْمُشَاهَدَةِ. نَعَمْ إِذَا رَأَى حَيَوَانًا وَلَوْ دُودًا تَجَدَّدَ تَعَجُّبُهُ وَقَالَ: «سُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَعْجَبَهُ» ! وَالْإِنْسَانُ أَعْجَبُ الْحَيَوَانَاتِ وَلَيْسَ يَتَعَجَّبُ مِنْ نَفْسِهِ، بَلْ لَوْ نَظَرَ إِلَى الْأَنْعَامِ الَّتِي أَلِفَهَا، وَنَظَرَ إِلَى أَشْكَالِهَا وَصُوَرِهَا، ثُمَّ إِلَى مَنَافِعِهَا وَفَوَائِدِهَا مِنْ جُلُودِهَا وَأَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لِبَاسًا لِخَلْقِهِ، وَأَكْنَانًا لَهُمْ فِي ظَعْنِهِمْ وَإِقَامَتِهِمْ، وَآنِيَةً لَأَشْرِبَتِهِمْ، وَأَوْعِيَةً لَأَعْذِيَتِهِمْ، وَصِوَانًا لِأَقْدَامِهِمْ، وَجَعَلَ أَلْبَانَهَا وَلُحُومَهَا أَغْذِيَةً لَهُمْ، ثُمَّ جَعَلَ
الصفحة 317
416