كتاب موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين

ثُمَّ انْظُرْ إِلَى عَجَائِبِ الْجَوِّ وَمَا يَظْهَرُ فِيهِ مِنَ الْغُيُومِ وَالرُّعُودِ وَالْبُرُوقِ وَالْأَمْطَارِ وَالثُّلُوجِ وَالشُّهُبِ وَالصَّوَاعِقِ فَهِيَ عَجَائِبُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَقَدْ أَشَارَ الْقُرْآنُ إِلَى جُمْلَةِ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ) [الدُّخَانِ: 38] وَهَذَا هُوَ الَّذِي بَيْنَهُمَا، وَأَشَارَ إِلَى تَفْصِيلِهِ فِي مَوَاضِعَ شَتَّى حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: (وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) [الْبَقَرَةِ: 164] وَحَيْثُ تَعَرَّضَ لِلرَّعْدِ وَالْبَرْقِ وَالسَّحَابِ وَالْمَطَرِ. فَتَأَمَّلِ السَّحَابَ الْكَثِيفَ الْمُظْلِمَ كَيْفَ تَرَاهُ يَجْتَمِعُ فِي جَوٍّ صَافٍ لَا كُدُورَةَ فِيهِ، وَكَيْفَ يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى إِذَا شَاءَ وَمَتَى شَاءَ، وَهُوَ مَعَ رَخَاوَتِهِ حَامِلٌ لِلْمَاءِ الثَّقِيلِ وَمُمْسِكٌ لَهُ فِي جَوِّ السَّمَاءِ إِلَى أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ فِي إِرْسَالِ الْمَاءِ وَتَقْطِيعِ الْقَطَرَاتِ حَتَّى يُصِيبَ الْأَرْضَ قَطْرَةً قَطْرَةً، فَلَوِ اجْتَمَعَ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ عَلَى أَنْ يَخْلُقُوا مِنْهَا قَطْرَةً لَعَجَزُوا، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ الْجَبَّارِ الْقَادِرِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.

آيَةُ السَّمَاوَاتِ
وَمِنْ آيَاتِهِ تَعَالَى مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْكَوَاكِبِ، وَقَدْ عَظَّمَ اللَّهُ تَعَالَى أَمْرَ السَّمَاوَاتِ وَالنُّجُومِ فِي كِتَابِهِ فَمَا مِنْ سُورَةٍ إِلَّا وَتَشْتَمِلُ عَلَى تَفْخِيمِهَا فِي مَوَاضِعَ، وَكَمْ مِنْ قَسَمٍ فِي الْقُرْآنِ بِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ) [الطَّارِقِ: 1] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) [الْوَاقِعَةِ: 75 وَ 76] وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ عَجَائِبَ النُّطْفَةِ الْقَذِرَةِ عَجَزَ عَنْ مَعْرِفَتِهَا الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ وَمَا أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا، فَمَا ظَنُّكَ بِمَا أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، وَأَحَالَ الْأَرْزَاقَ عَلَيْهِ وَأَضَافَهَا إِلَيْهِ فَقَالَ تَعَالَى: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) [الذَّارِيَاتِ: 22] وَأَثْنَى عَلَى الْمُتَفَكِّرِينَ فِيهِ فَقَالَ: (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) [آلِ عِمْرَانَ: 191] فَارْفَعْ رَأْسَكَ إِلَى السَّمَاءِ وَانْظُرْ فِيهَا وَفِي كَوَاكِبِهَا وَطُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا وَشَمْسِهَا وَقَمَرِهَا وَاخْتِلَافِ مَشَارِقِهَا وَمَغَارِبِهَا وَدُؤُوبِهَا فِي الْحَرَكَةِ عَلَى الدَّوَامِ مِنْ غَيْرِ فُتُورٍ فِي حَرَكَتِهَا وَمِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ فِي سَيْرِهَا، بَلْ تَجْرِي جَمِيعًا فِي مَنَازِلَ مُرَتَّبَةٍ بِحِسَابٍ مُقَدَّرٍ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ إِلَى أَنْ يَطْوِيَهَا اللَّهُ تَعَالَى طَيَّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [الْحَجِّ: 104] وَتَدَبَّرْ كَثْرَةَ كَوَاكِبِهَا وَاخْتِلَافَ أَلْوَانِهَا وَكَيْفِيَّةَ أَشْكَالِهَا. ثُمَّ انْظُرْ إِلَى مَسِيرِ الشَّمْسِ فِي فَلَكِهَا فِي مُدَّةِ سَنَةٍ، ثُمَّ هِيَ تَطْلُعُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَتَغْرُبُ، وَلَوْلَا طُلُوعُهَا وَغُرُوبُهَا لَمَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلَمْ تُعْرَفِ الْمَوَاقِيتُ، وَلَأَطْبَقَ الظَّلَامُ عَلَى الدَّوَامِ أَوِ الضِّيَاءُ عَلَى الدَّوَامِ فَكَانَ لَا يَتَمَيَّزُ وَقْتُ الْمَعَاشِ عَنْ وَقْتِ الِاسْتِرَاحَةِ، وَانْظُرْ إِلَى إِيلَاجِهِ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَالنَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَإِدْخَالِهِ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ عَلَيْهِمَا عَلَى تَرْتِيبٍ مَخْصُوصٍ، وَانْظُرْ كَيْفَ أَمْسَكَهَا مِنْ غَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَمِنْ غَيْرِ عِلَاقَةٍ مِنْ فَوْقِهَا. وَعَجَائِبُ السَّمَاوَاتِ لَا مَطْمَعَ فِي إِحْصَاءِ عُشْرِ عُشَيْرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا، وَإِنَّمَا هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى طَرِيقِ الْفِكْرِ.
وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَمَا مِنْ كَوْكَبٍ مِنَ الْكَوَاكِبِ إِلَّا وَلِلَّهِ تَعَالَى فِيهِ حِكَمٌ كَثِيرَةٌ، وَكُلُّ الْعَالَمِ كَبَيْتٍ وَاحِدٍ، وَالسَّمَاءُ سَقْفُهُ، فَالْعَجَبُ مِنْكَ أَنَّكَ تَدْخُلُ بَيْتَ غَنِيٍّ فَتَرَاهُ مُزَوَّقًا بِالصَّبْغِ مُمَوَّهًا بِالذَّهَبِ فَلَا يَنْقَطِعُ تَعَجُّبُكَ مِنْهُ وَلَا تَزَالُ تَذْكُرُهُ وَتَصِفُ حُسْنَهُ طُولَ عُمُرِكَ، وَأَنْتَ أَبَدًا تَنْظُرُ إِلَى هَذَا

الصفحة 319