كتاب موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين
عَظَائِمِهَا إِذْ نَزَلَتْ مَلَائِكَةٌ مِنْ أَرْجَاءِ السَّمَاءِ إِلَى مَوْقِفِ الْعَرْضِ عَلَى الْجَبَّارِ، فَيَقُومُونَ صَفًّا صَفًّا مُحَدِّقِينَ بِالْخَلَائِقِ مِنَ الْجَوَانِبِ، وَيُنَادُونَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَرْتَعِدُ الْفَرَائِصُ وَتَضْطَرِبُ الْجَوَارِحُ وَتُبْهَتُ الْعُقُولُ، وَيَتَمَنَّى أَقْوَامٌ أَنْ يُذْهَبَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ وَلَا تُعْرَضَ قَبَائِحُ أَعْمَالِهِمْ عَلَى الْجَبَّارِ وَلَا يَكْشِفَ سَتْرَهُمْ عَلَى مَلَأِ الْخَلَائِقِ. وَقَبْلَ الِابْتِدَاءِ بِالسُّؤَالِ يَظْهَرُ نُورُ الْعَرْشِ: (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا) [الزُّمَرِ: 69] وَأَيْقَنَ قَلْبُ كُلِّ عَبْدٍ بِإِقْبَالِ الْجَبَّارِ لِمُسَاءَلَةِ الْعِبَادِ، وَيَظُنُّ كُلُّ وَاحِدٍ أَنَّهُ مَا يَرَاهُ أَحَدٌ سِوَاهُ، وَأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالْأَخْذِ وَالسُّؤَالِ دُونَ مَنْ عَدَاهُ، فَيَبْدَأُ سُبْحَانَهُ بِالْأَنْبِيَاءِ: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [الْمَائِدَةِ: 109] فَيَا لَشِدَّةِ يَوْمٍ تَذْهَلُ فِيهِ عُقُولُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ شِدَّةِ الْهَيْبَةِ، ثُمَّ يُؤْخَذُ وَاحِدٌ وَاحِدٌ فَيَسْأَلُهُ اللَّهُ تَعَالَى شِفَاهًا عَنْ قَلِيلِ عَمَلِهِ وَكَثِيرِهِ، عَنْ سِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ، وَعَنْ جَمِيعِ جَوَارِحِهِ وَأَعْضَائِهِ. فَكَيْفَ تَرَى حَيَاءَكَ وَخَجْلَتَكَ وَهُوَ يَعُدُّ عَلَيْكَ إِنْعَامَهُ وَمَعَاصِيَكَ، وَأَيَادِيَهُ وَمُسَاوِيَكَ، فَإِنْ أَنْكَرْتَ شَهِدَتْ عَلَيْكَ جَوَارِحُكَ وَأَنْتَ بِقَلْبٍ خَافِقٍ وَطَرْفٍ خَاشِعٍ وَأُعْطِيتَ كِتَابَكَ الَّذِي لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةَ إِلَّا أَحْصَاهَا، فَكَمْ مِنْ فَاحِشَةٍ نَسِيتَهَا فَتَذْكُرُهَا، وَكَمْ مِنْ طَاعَةٍ غَفَلْتَ عَنْ آفَاتِهَا فَانْكَشَفَ لَكَ عَنْ مُسَاوِيهَا، فَلَيْتَ شِعْرِي بِأَيِّ قَدَمٍ تَقِفُ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَبِأَيِّ لِسَانٍ تُجِيبُ، وَبِأَيِّ قَلْبٍ تَعْقِلُ مَا تَقُولُ، وَفِي الْخَبَرِ: «لَا تَزُولُ قَدَمَا ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ: عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ» . فَأَعْظِمْ يَا مِسْكِينُ بِحَيَاتِكَ عِنْدَ ذَلِكَ وَبِخَطَرِكَ. ثُمَّ لَا تَغْفُلْ عَنِ الْفِكْرِ فِي الْمِيزَانِ وَتَطَايُرِ الْكُتُبِ إِلَى الشَّمَائِلِ وَالْأَيْمَانِ: (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ) [الْقَارِعَةِ: 6: 11] .
صِفَةُ الْخُصَمَاءِ وَرَدُّ الْمَظَالِمِ
اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَنْجُو مِنْ خَطَرِ الْمِيزَانِ إِلَّا مَنْ حَاسَبَ فِي الدُّنْيَا نَفْسَهُ، وَوَزَنَ فِيهَا بِمِيزَانِ الشَّرْعِ أَعْمَالَهُ وَأَقْوَالَهُ، وَخَطَرَاتِهِ وَلَحَظَاتِهِ، وَإِنَّمَا حِسَابُهُ لِنَفْسِهِ أَنْ يَتُوبَ عَنْ كُلِّ مَعْصِيَةٍ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ تَوْبَةً نَصُوحًا، وَيَتَدَارَكَ مَا فَرَطَ مِنْ تَقْصِيرِهِ فِي فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى ; وَيَرُدَّ الْمَظَالِمَ حَبَّةً بَعْدِ حَبَّةٍ، حَتَّى يَمُوتَ وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ مَظْلَمَةٌ وَلَا فَرِيضَةٌ - فَهَذَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ رَدِّ الْمَظَالِمِ أَحَاطَ بِهِ خُصَمَاؤُهُ فَهَذَا يَأْخُذُ بِيَدِهِ - وَهَذَا يَقْبِضُ عَلَى نَاصِيَتِهِ - وَهَذَا يَقُولُ ظَلَمْتَنِي - وَهَذَا يَقُولُ شَتَمْتَنِي - وَهَذَا يَقُولُ اسْتَهْزَأْتَ بِي - وَهَذَا يَقُولُ جَاوَرْتَنِي فَأَسَأْتَ جِوَارِي - وَهَذَا يَقُولُ عَامَلْتَنِي فَغَشَشْتَنِي - وَهَذَا يَقُولُ أَخْفَيْتَ عَيْبَ سِلْعَتِكَ عَنِّي - وَهَذَا يَقُولُ وَجَدْتَنِي مَظْلُومًا وَكُنْتَ قَادِرًا عَلَى دَفْعِ الظُّلْمِ عَنِّي فَمَا رَاعَيْتَنِي. فَبَيْنَمَا أَنْتَ كَذَلِكَ وَقَدْ أَنْشَبَتِ الْخُصَمَاءُ فِيكَ
الصفحة 327
416