كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 1)

فَقَدَّمَ مُقِيمًا صَحَّ ذَلِكَ)؛ لِأَنَّ الْمُقِيمَ شَرِيكُهُ فِي الصَّلَاةِ وَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ فَرْضُ الْمُسَافِرِينَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ نَوَى الْأَوَّلُ الْإِقَامَةَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا قَصَدُوا الِاقْتِدَاءَ بِالْأَوَّلِ فَقَدْ أَلْزَمُوا أَنْفُسَهُمْ حُكْمَ الِاقْتِدَاءِ، وَمَا قَصَدُوا الِاقْتِدَاءَ بِالثَّانِي إنَّمَا لَزِمَهُمْ الِاقْتِدَاءُ لِضَرُورَةِ الْحَاجَةِ إلَى إصْلَاحِ صَلَاتِهِمْ، وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ لَا يَعْدُو مَوْضِعَ الضَّرُورَةِ، وَعَلَى هَذَا قُلْنَا: لَوْ قَدَّمَ مُسَافِرًا فَنَوَى الثَّانِي الْإِقَامَةَ لَا يَتَغَيَّرُ فَرْضُ الْمُسَافِرِينَ ثُمَّ عَلَى الثَّانِي أَنْ يُتِمَّ بِهِمْ صَلَاةَ الْمُسَافِرِينَ؛ لِأَنَّهُ خَلِيفَةُ الْأَوَّلِ فَيَأْتِي بِمَا كَانَ عَلَى الْأَوَّلِ، فَإِذَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ قَدَّمَ مُسَافِرًا لِيُسَلِّمَ بِهِمْ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ التَّسْلِيمِ بِنَفْسِهِ لِبَقَاءِ الْبِنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَقُومُ هُوَ مَعَ الْمُقِيمِينَ فَيُتِمُّونَ صَلَاتَهُمْ وُحْدَانًا، هَكَذَا «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ صَلَّى بِعَرَفَاتٍ: أَتِمُّوا يَا أَهْلَ مَكَّةَ صَلَاتَكُمْ، فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ» فَإِنْ اقْتَدَوْا فِيمَا يَقْضُونَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ؛ لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ فِي مَوْضِعٍ يَحِقُّ فِيهِ الِانْفِرَادُ كَالِانْفِرَادِ فِي مَوْضِعٍ يَحِقُّ فِيهِ الِاقْتِدَاءُ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُخَالَفَةِ فِي الْحُكْمِ، وَإِنْ مَضَى الْإِمَامُ الثَّانِي فِي صَلَاتِهِ حَتَّى أَتَمَّهَا صَلَاةَ الْإِقَامَةِ وَالْقَوْمُ مَعَهُ، فَإِنْ قَعَدَ فِي الثَّانِيَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَصَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْمُسَافِرِينَ تَامَّةٌ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مُنْفَرِدٌ لَا تَتَعَلَّقُ صَلَاتُهُ بِصَلَاةِ غَيْرِهِ، وَالْمُسَافِرُونَ إنَّمَا اشْتَغَلُوا بِالنَّفْلِ بَعْدَ إكْمَالِ الْفَرْضِ فَلَا يَضُرُّهُمْ، فَأَمَّا صَلَاةُ الْمُقِيمِينَ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِمْ الِانْفِرَادَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ، فَإِذَا اقْتَدَوْا بِهِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَقْعُدْ الثَّانِي فِي الرَّكْعَتَيْنِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْقَوْمِ كُلِّهِمْ؛ لِأَنَّهُ خَلِيفَةُ الْأَوَّلِ فَيُفْتَرَضُ عَلَيْهِ مَا عَلَى الْأَوَّلِ، وَالْأَوَّلُ لَوْ تَرَكَ الْقَعْدَةَ الْأُولَى فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْقَوْمِ، فَكَذَلِكَ الثَّانِي إذَا تَرَكَهَا فَتَفْسُدُ بِهِ صَلَاةُ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمُقْتَدِينَ بِهِ.

قَالَ: (إمَامٌ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ فَرَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَقْرَأَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَرَأَ وَرَكَعَ وَسَجَدَ وَأَدْرَكَ مَعَهُ رَجُلٌ هَذَا الرُّكُوعَ الثَّانِي فَهُوَ مُدْرِكٌ لِلرَّكْعَةِ)؛ لِأَنَّ الرُّكُوعَ الْأَوَّلَ انْتَقَضَ بِالثَّانِي، فَإِنَّ الْأَوَّلَ سَبَقَ أَوَانَهُ؛ لِأَنَّ أَوَانَ الرُّكُوعِ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ فَمَا سَبَقَهُ كَانَ مُنْتَقِضًا، وَالرُّكُوعُ الثَّانِي حَصَلَ فِي أَوَانِهِ فَهُوَ الْمُعْتَدُّ بِهِ، وَقَدْ أَدْرَكَهُ الرَّجُلُ، وَإِنْ كَانَ قَرَأَ قَبْلَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ فَالرُّكُوعُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَمَنْ أَدْرَكَ الرُّكُوعَ الثَّانِي لَا يَصِيرُ بِهِ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ حَصَلَ فِي أَوَانِهِ فَهُوَ الْمُعْتَدُّ بِهِ، وَالثَّانِي وَقَعَ مُكَرَّرًا وَلَا تَكْرَارَ فِي الرُّكُوعِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَالْمُنْتَقَضُ مَا وَقَعَ مُكَرَّرًا، وَذَكَرَ فِي بَابِ السَّهْوِ فِي نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الرُّكُوعُ الثَّانِي وَمُدْرِكُهُ مُدْرِكٌ لِلرَّكْعَةِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ اعْتِبَارَ الرُّكُوعِ بِاتِّصَالِ السُّجُودِ بِهِ، وَإِنَّمَا اتَّصَلَ السُّجُودُ بِالرُّكُوعِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، فَكَانَ الْمُنْتَقِضُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَالْأَصَحُّ مَا ذَكَرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّ الْفَرْضَ بِالرُّكُوعِ الْأَوَّلِ صَارَ

الصفحة 179