كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 1)

فَقَدْ تَرَكَ الْمَكَانَ الْمُخْتَارَ لَهُ وَتَرَكَ فَرْضًا مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ أَيْضًا، فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَخِّرَهَا عِنْدَ أَدَاءِ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ» وَالْمُرَادُ مِنْ الْأَمْرِ بِتَأْخِيرِهَا لِأَجْلِ الصَّلَاةِ فَكَانَ مِنْ فَرَائِضِ صَلَاتِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ حَالَ الصَّلَاةِ حَالُ الْمُنَاجَاةِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْطِرَ بِبَالِهِ شَيْءٌ مِنْ مَعَانِي الشَّهْوَةِ فِيهِ، وَمُحَاذَاةُ الْمَرْأَةِ إيَّاهُ لَا تَنْفَكُّ عَنْ ذَلِكَ عَادَةً، فَصَارَ الْأَمْرُ بِتَأْخِيرِهَا مِنْ فَرَائِضِ صَلَاتِهِ، فَإِذَا تَرَكَ تَفْسُدُ صَلَاتَهُ، وَإِنَّمَا لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهَا؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ بِالتَّأْخِيرِ لِلرَّجُلِ وَهُوَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُؤَخِّرَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَأَخَّرَ بِأَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهَا، وَلِهَذَا لَمْ تَفْسُدْ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ بِالْمُحَاذَاةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ هِيَ مُنَاجَاةٌ بَلْ هِيَ قَضَاءٌ لِحَقِّ الْمَيِّتِ، ثُمَّ لَيْسَ لَهَا فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ مَقَامٌ لِكَوْنِهَا مَنْهِيَّةً عَنْ الْخُرُوجِ فِي الْجَنَائِزِ، وَلَا تَفْسُدُ صَلَاةُ مَنْ هُوَ عَلَى يَمِينِ مَنْ هُوَ عَلَى يَمِينِهَا، وَمَنْ عَلَى يَسَارِ مَنْ هُوَ عَلَى يَسَارِهَا إذْ هُنَاكَ حَائِلٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْأُسْطُوَانَةِ، أَوْ كَانَ مِنْ الثِّيَابِ، فَإِنْ كَانَ صَفٌّ تَامٌّ مِنْ النِّسَاءِ وَرَاءَهُنَّ صُفُوفٌ مِنْ الرِّجَالِ فَسَدَتْ صَلَاةُ تِلْكَ الصُّفُوفِ كُلِّهَا اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ مِثْلُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَا تَفْسُدُ إلَّا صَلَاةُ صَفٍّ وَاحِدٍ خَلْفَ صُفُوفِ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّ تَحَقُّقَ الْمُحَاذَاةِ فِي حَقِّهِمْ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ حَدِيثَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ نَهْرٌ أَوْ طَرِيقٌ أَوْ صَفٌّ مِنْ النِّسَاءِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ» وَلِأَنَّ الصَّفَّ مِنْ النِّسَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْحَائِطِ بَيْنَ الْمُقْتَدِي وَبَيْنَ الْإِمَامِ، وَوُجُودُ الْحَائِطِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ فُرْجَةٌ بَيْنَ الْمُقْتَدِي وَالْإِمَامِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ، فَكَذَلِكَ فِي الصَّفِّ مِنْ النِّسَاءِ، فَأَمَّا الْمَرْأَتَانِ وَالثَّلَاثُ إذَا وَقَفْنَ فِي الصَّفِّ فَالْمَرْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْمَرْأَتَيْنِ تُفْسِدَانِ صَلَاةَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ: مَنْ عَنْ يَمِينِهِمَا وَمَنْ عَنْ يَسَارِهِمَا وَمَنْ خَلْفَهُمَا بِحِذَائِهِمَا، وَالثَّلَاثُ يُفْسِدْنَ صَلَاةَ مَنْ عَنْ يَمِينِهِنَّ وَمَنْ عَنْ يَسَارِهِنَّ وَثَلَاثَةٍ ثَلَاثَةٍ خَلْفَهُنَّ إلَى آخِرِ الصُّفُوفِ، وَقَالَ: الثَّلَاثُ جَمْعٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَهُوَ قِيَاسُ الصَّفِّ التَّامِّ، فَأَمَّا الْمَثْنَى فَلَيْسَتَا بِجَمْعٍ تَامٍّ فَهُمَا قِيَاسُ الْوَاحِدَةِ لَا يُفْسِدَانِ إلَّا صَلَاةَ مَنْ خَلْفَهُمَا.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - رِوَايَتَانِ فِي إحْدَاهُمَا جَعَلَ الثَّلَاثَ كَالِاثْنَيْنِ وَقَالَ لَا يُفْسِدْنَ إلَّا صَلَاةَ خَمْسَةِ نَفَرٍ: مَنْ عَنْ يَمِينِهِنَّ وَمَنْ عَنْ يَسَارِهِنَّ وَمَنْ خَلْفَهُنَّ بِحِذَائِهِنَّ؛ لِأَنَّ الْأَثَرَ جَاءَ فِي صَفٍّ تَامٍّ وَالثَّلَاثُ لَيْسَ بِصَفٍّ تَامٍّ مِنْ النِّسَاءِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى جَعَلَ الْمَثْنَى كَالثَّلَاثِ وَقَالَ: يُفْسِدَانِ صَلَاةَ مَنْ عَنْ يَمِينِهِمَا وَمَنْ عَنْ يَسَارِهِمَا وَصَلَاةَ رَجُلَيْنِ خَلْفَهُمَا وَصَلَاةَ رَجُلَيْنِ خَلْفَهُمَا إلَى آخِرِ الصُّفُوفِ؛ لِأَنَّ لِلْمَثْنَى حُكْمُ الثَّلَاثِ فِي الِاصْطِفَافِ حِينَ يَصْطَفَّانِ خَلْفَ الْإِمَامِ، قَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -

الصفحة 184