كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 1)

الْمَغْرِبِ سُنَّةٌ، وَهَذَا لِأَنَّ الثَّانِيَةَ هِيَ الثَّالِثَةُ لِلْأُولَى، وَالثَّانِيَةُ لِلْأُولَى فِي حَقِّهِ هَذِهِ الرَّكْعَةُ، وَرُوِيَ أَنْ جُنْدُبًا وَمَسْرُوقًا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - اُبْتُلِيَا بِهَذَا، فَصَلَّى جُنْدُبٌ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَعَدَ، وَمَسْرُوقٌ رَكْعَةً ثُمَّ قَعَدَ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَةً أُخْرَى، فَسَأَلَا عَنْ ذَلِكَ ابْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، فَقَالَ: كِلَاكُمَا أَصَابَ، وَلَوْ كُنْتُ أَنَا لَصَنَعْتُ كَمَا صَنَعَ مَسْرُوقٌ، وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ: كِلَاكُمَا أَصَابَ طَرِيقَ الِاجْتِهَادِ، فَأَمَّا الْحَقُّ فَوَاحِدٌ غَيْرُ مُتَعَدِّدٍ، ثُمَّ مَا يُصَلِّي الْمَسْبُوقُ مَعَ الْإِمَامِ آخِرَ صَلَاتِهِ حُكْمًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْقِرَاءَةِ وَالْقُنُوتِ هُوَ آخِرُ صَلَاتِهِ، وَفِي حُكْمِ الْقَعْدَةِ هُوَ أَوَّلُ صَلَاتِهِ، وَمَذْهَبُهُ مَذْهَبُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمَذْهَبُهُمَا مَذْهَبُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - هُوَ أَوَّلُ صَلَاتِهِ فِعْلًا وَحُكْمًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ الْآخِرُ إلَّا بَعْدَ الْأَوَّلِ فِي الْأَدَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ فِي حَقِّهِ أَوَّلُ الصَّلَاةِ فَكَذَلِكَ مَا بَعْدَهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: لَوْ كَانَ هَذَا مُؤَدِّيًا لِأَوَّلِ الصَّلَاةِ كَانَ مُخَالِفًا لِإِمَامِهِ، وَلَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ كَيْفَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا» فَهُوَ نَصٌّ عَلَى أَنَّهُ مُؤَدٍّ مَعَ الْإِمَامِ مَا أَدْرَكَ لَا مَا فَاتَهُ، وَلَكِنْ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - جَعَلَهُ فِي حُكْمِ الْقِرَاءَةِ هَكَذَا احْتِيَاطًا حَتَّى تَلْزَمُهُ الْقِرَاءَةُ فِيمَا يَقْضِي؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ مُكَرَّرَةٌ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْقُنُوتِ؛ لِأَنَّهُ يَتَكَرَّرُ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَوْ جَعَلْنَا مَا يُؤَدِّيهِ مَعَ الْإِمَامِ أَوَّلَ الصَّلَاةِ لَلَزِمَهُ الْقُنُوتُ فِيمَا يَقْضِي، فَيُؤَدِّي إلَى تَكْرَارِ الْقُنُوتِ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، فَأَمَّا فِي حُكْمِ الْقَعْدَةِ فَتَتِمُّ الصَّلَاةُ بِقَعْدَةٍ هِيَ رُكْنٌ، وَلَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَجْعَلَ مَا يُؤَدِّيهِ مَعَ الْإِمَامِ أَوَّلَ الصَّلَاةِ، فَلِهَذَا قَعَدَ إذَا صَلَّى رَكْعَةً، وَحُكِيَ عَنْ يَحْيَى الْبَنَّاءِ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَأَجَابَ بِمَا قُلْنَا، فَقَالَ عَلَى وَجْهِ السُّخْرِيَةِ: هَذِهِ صَلَاةٌ مَعْكُوسَةٌ، فَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا أَفْلَحْتَ، قَالَ: وَكَانَ كَمَا قَالَ: أَفْلَحَ أَصْحَابُهُ وَلَمْ يُفْلِحْ بِدُعَائِهِ.

قَالَ: (وَأُحِبُّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي فِي الصَّحْرَاءِ شَيْءٌ أَدْنَاهُ طُولُ ذِرَاعٍ) لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فِي الصَّحْرَاءِ فَلْيَتَّخِذْ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةً» وَكَانَتْ الْعَنَزَةُ تُحْمَلُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتُرْكَزُ فِي الصَّحْرَاءِ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيُصَلِّي إلَيْهَا، حَتَّى قَالَ عَوْنُ بْنُ جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْبَطْحَاءِ فِي قُبَّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ أَدَمٍ، فَرَكَزَ بِلَالٌ الْعَنَزَةَ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي إلَيْهَا، وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ مِنْ وَرَائِهَا»، وَإِنَّمَا قَالَ: بِقَدْرِ ذِرَاعٍ طُولًا وَلَمْ يَذْكُرْ الْعَرْضَ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ

الصفحة 190