كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 1)

لَا يَصِحُّ قِيَاسًا.
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي جَالِسًا»، وَهَذَا نَصٌّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَا يَؤُمُّ الْمُتَيَمِّمُ الْمُتَوَضِّئِينَ وَلَا الْمُقَيَّدُ الْمُطْلَقِينَ، وَهَذَا نَصٌّ وَالْمَعْنَى فِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِمَامَ صَاحِبُ عُذْرٍ، فَمَنْ كَانَ حَالُهُ مِثْلَ حَالِ الْإِمَامِ يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ وَمَا لَا فَلَا، كَإِمَامَةِ صَاحِبِ الْجُرْحِ السَّائِلِ لِلْأَصِحَّاءِ وَلِأَصْحَابِ الْجُرُوحِ. وَتَأْثِيرُ هَذَا الْكَلَامِ وَهُوَ أَنَّ الْقِيَامَ رُكْنٌ وَالْمُقْتَدِي يَنْفَرِدُ بِهَذَا الرُّكْنِ فَلَوْ قُلْنَا بِأَنَّهُ يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ يَكُونُ هَذَا مُقْتَدِيًا بِالْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ وَكَانَ قَاعِدًا وَهُمْ قِيَامٌ خَلْفَهُ» فَإِنَّهُ لَمَّا ضَعُفَ فِي مَرَضِهِ قَالَ «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ لِحَفْصَةَ: قُولِي لَهُ إنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ إذَا وَقَفَ فِي مَكَانِكَ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ، فَلَوْ أَمَرْتَ غَيْرَهُ فَقَالَتْ ذَلِكَ كَرَّتَيْنِ، فَقَالَ: إنَّكُنَّ صَاحِبَاتُ يُوسُفَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَلَمَّا شَرَعَ أَبُو بَكْرٍ فِي الصَّلَاةِ وَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خِفَّةً فِي نَفْسِهِ فَخَرَجَ وَهُوَ يُهَادِي بَيْنَ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ وَبَيْنَ عَلِيٍّ، وَكَانَ رِجْلَاهُ تَخُطَّانِ الْأَرْضَ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَسَمِعَ أَبُو بَكْرٍ حِسَّ مَجِيءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَأَخَّرَ وَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَعَدَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْقَوْمُ يُكَبِّرُونَ بِتَكْبِيرِ أَبِي بَكْرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ يُكَبِّرُ بِتَكْبِيرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةُ يُكَبِّرُونَ بِتَكْبِيرِ أَبِي بَكْرٍ»، وَهَذَا آخِرُ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَرَضِهِ، فَيَكُونُ نَاسِخًا لِمَا كَانَ قَبْلَهُ عَلَى مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ «جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: سَقَطَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ فَرَسِهِ فَجُحِشَ شِقُّهُ الْأَيْسَرُ فَلَمْ يَخْرُجْ أَيَّامًا، فَالصَّحَابَةُ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَوَجَدُوهُ فِي الصَّلَاةِ قَاعِدًا فَاقْتَدُوا بِهِ قِيَامًا فَأَشَارَ إلَيْهِمْ أَنْ اُقْعُدُوا، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ: إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَى أَئِمَّتِكُمْ، فَإِنْ صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا أَجْمَعِينَ، وَإِنْ صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا أَجْمَعِينَ وَلَا يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي جَالِسًا» وَلَكِنَّا نَقُولُ: صَارَ هَذَا مَنْسُوخًا بِفِعْلِهِ الْآخِرِ وَهُوَ مَا رَوَيْنَا فِي حَدِيثِ مَرَضِ مَوْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قُلْنَا: لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِ؛ لِأَنَّ فِي الْحَدِيثِ زِيَادَةً وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَا الْمَاسِحُ لِلْغَاسِلِينَ وَبِالْإِجْمَاعِ إمَامَةُ الْمَاسِحِ لِلْغَاسِلِ جَائِزَةٌ، فَدَلَّ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِ.
وَالْفِقْهُ فِيهِ أَنَّ الْإِمَامَ صَاحِبُ بَدَلٍ صَحِيحٍ فَاقْتِدَاءُ صَاحِبِ الْأَصْلِ بِهِ صَحِيحٌ كَالْمَاسِحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ إذَا أَمَّ الْغَاسِلِينَ بِخِلَافِ صَاحِبِ

الصفحة 214