كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 1)

وَلِأَنَّهُ يَجِبُ بِتَرْكِ بَعْضِ السُّنَنِ، وَالْخَلْفُ لَا يَكُونُ أَقْوَى فَوْقَ الْأَصْلِ

إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: إذَا سَهَا وَلَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا، وَذَلِكَ أَوَّلُ مَا سَهَا اسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَسْتَقْبِلْ»، وَلِأَنَّ الِاسْتِقْبَالَ لَا يَرِيبُهُ وَالْمُضِيُّ يَرِيبُهُ بَعْدَ الشَّكِّ، وَالِاحْتِيَاطُ فِي الْعِبَادَةِ لِيُؤَدِّهَا بِكَمَالِهَا وَاجِبٌ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَذَلِكَ أَوَّلَ مَا سَهَا أَنَّ السَّهْوَ لَيْسَ بِعَادَةٍ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْهُ فِي عُمْرِهِ قَطُّ، وَإِنْ لَقِيَ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ تَحَرَّى الصَّوَابَ وَأَتَمَّ الصَّلَاةَ عَلَى ذَلِكَ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ»، وَلِأَنَّا لَوْ أُمِرْنَا بِالِاسْتِقْبَالِ يَقَعُ فِي الشَّكِّ ثَانِيًا وَثَالِثًا إذَا صَارَ ذَلِكَ عَادَةً لَهُ فَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِي الصَّلَاةِ فَلِهَذَا تَحَرَّى وَشَهَادَةُ الْقَلْبِ فِي التَّحَرِّي تَكْفِي عِنْدَنَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمُؤْمِنُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ»، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَا يَكْفِي مَا لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ دَلِيلٌ آخَرُ؛ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ الظَّنِّ، وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَحَرٍّ أَخَذَ بِالْأَقَلِّ لِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَأْخُذْ بِالْأَقَلِّ وَلْيُصَلِّ حَتَّى يَشُكَّ فِي الزِّيَادَةِ كَمَا يَشُكُّ فِي النُّقْصَانِ»، وَلِأَنَّهُ مُتَيَقِّنٌ بِوُجُوبِ الْأَدَاءِ عَلَيْهِ فَلَا يَتْرُكُ هَذَا الْيَقِينَ إلَّا بِيَقِينٍ مِثْلِهِ، وَذَلِكَ فِي الْأَقَلِّ إلَّا أَنَّهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ آخِرُ صَلَاتِهِ فَيَقْعُدُ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّ قَعْدَةَ الْخَتْمِ رُكْنٌ وَالِاشْتِغَالُ بِالنَّافِلَةِ قَبْلَ إكْمَالِ الْفَرْضِ مُفْسِدٌ لِصَلَاتِهِ.

ثُمَّ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَبْلَ السَّلَامِ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ بُحَيْنَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ» وَمَا رُوِيَ بَعْدَ السَّلَامِ أَيْ بَعْدَ التَّشَهُّدِ كَمَا قُلْتُمْ فِي قَوْلِهِ: «وَفِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ فَسَلِّمْ» أَيْ فَتَشَهَّدْ، وَلِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ مُؤَدًّى فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ، وَلِهَذَا لَوْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِيهِ صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ، وَالسَّلَامُ مُحَلِّلٌ لَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْ كُلِّ مَا يُؤَدِّي فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ، فَكَانَ هَذَا قِيَاسُ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ.
(وَلَنَا) حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سَجَدَ لِلسَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ» وَمَا رُوِيَ قَبْلَ السَّلَامِ أَيْ قَبْلَ السَّلَامِ الثَّانِي، فَإِنَّ عِنْدَنَا يُسَلِّمُ بَعْدَ سُجُودِ السَّهْوِ أَيْضًا إذْ بِمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَارُ إلَى قَوْلِهِ وَفِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ «لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَ السَّلَامِ»، وَلِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ مُؤَخَّرٌ عَنْ مَحِلِّهِ، فَلَوْ كَانَ

الصفحة 219