كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 2)

أَنَّ الْمُضَارِبَ لَهُ حَقٌّ قَوِيٌّ يُشْبِهُ الْمِلْكَ فَإِنَّهُ شَرِيكٌ فِي الرِّبْحِ، وَإِذَا صَارَ الْمَالُ عُرُوضًا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ عَلَى وَجْهٍ لَوْ نَهَاهُ رَبُّ الْمَالِ لَا يَعْمَلُ نَهْيُهُ فَكَانَ حُضُورُ الْمُضَارِبِ كَحُضُورِ الْمَالِكِ. وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ الْمُضَارِبَ أَمِينٌ فِي الْمَالِ كَالْمُسْتَبْضِعِ وَالْأَجِيرِ، وَإِنَّمَا فَوَّضَ إلَيْهِ التِّجَارَةَ فِي الْمَالِ لَا أَدَاءَ الزَّكَاةِ، وَالزَّكَاةُ تَسْتَدْعِي نِيَّةَ مَنْ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ الثَّانِي فِي الْعَبْدِ أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ مِنْهُ أَيْضًا فَلَا حَاجَةَ إلَى الْفَرْقِ، وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ فِي الْعَبْدِ فَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْمَأْذُونَ يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ حَتَّى إذَا لَحِقَتْهُ الْعُهْدَةُ لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمَوْلَى فَكَانَ فِي أَدَاءِ مَا يَجِبُ فِي كَسْبِهِ كَالْمَالِكِ بِخِلَافِ الْمُضَارِبِ فَإِنَّهُ نَائِبٌ فِي التَّصَرُّفِ يَرْجِعُ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فَلَا يَكُونُ لَهُ وِلَايَةُ أَدَاءِ الزَّكَاةِ

(قَالَ): وَإِذَا مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ بِمَالٍ وَمَعَهُ بَرَاءَةٌ بِغَيْرِ اسْمِهِ يَقُولُ هَذِهِ بَرَاءَةٌ مِنْ عَاشِرِ كَذَا مَرَّ بِهِ رَجُلٌ كَانَ هَذَا الْمَالُ مَعَهُ مُضَارَبَةً فِي يَدِهِ فَإِنْ حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ كَفَّ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِخَبَرٍ مُحْتَمَلٍ وَهُوَ أَمِينٌ فَيُصَدِّقُهُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ: أَدَّيْتُهَا إلَى الْمَسَاكِينِ

(قَالَ:)، وَإِنْ مَرَّ بِهِ عَلَى عَاشِرِ الْخَوَارِجِ فَعَشَّرَهُ لَمْ يَحْسِبْهُ لَهُ عَاشِرُ أَهْلِ الْعَدْلِ، قَالَ: لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُجْزِئُهُ مِنْ زَكَاتِهِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ أَمْوَالَنَا بِطَرِيقِ الِاسْتِحْلَالِ لَا بِطَرِيقِ الصَّدَقَةِ وَلَا يَصْرِفُونَهُ مَصَارِفَ الصَّدَقَةِ، وَصَاحِبُ الْمَالِ هُوَ الَّذِي عَرَضَ مَالَهُ لِلْأَخْذِ بِالْمُرُورِ عَلَيْهِ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ حَقُّ عَاشِرِ أَهْلِ الْعَدْلِ فِي الْأَخْذِ مِنْهُ

(قَالَ:) وَلَا يُجْزِئُ فِي الزَّكَاةِ عِتْقُ رَقَبَةٍ وَلَا الْحَجُّ وَلَا قَضَاءُ دَيْنِ مَيِّتٍ وَلَا تَكْفِينُهُ وَلَا بِنَاءُ مَسْجِدٍ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ فِعْلُ الْإِيتَاءِ فِي جُزْءٍ مِنْ الْمَالِ وَلَا يَحْصُلُ الْإِيتَاءُ إلَّا بِالتَّمْلِيكِ فَكُلُّ قُرْبَةٍ خَلَتْ عَنْ التَّمْلِيكِ لَا تُجْزِي عَنْ الزَّكَاةِ وَإِعْتَاقُ الرَّقَبَةِ لَيْسَ فِيهِ تَمْلِيكُ شَيْءٍ مِنْ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَعْتِقُ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى وَلِهَذَا كَانَ الْوَلَاءُ لَهُ، وَكَذَلِكَ الْحَجُّ فَإِنَّ مَا يُنْفِقُهُ الْحَاجُّ فِي الطَّرِيقِ لَا يَمْلِكُهُ غَيْرُهُ، وَإِنْ أَحَجَّ رَجُلًا فَالْحَاجُّ يُنْفِقُ عَلَى مِلْكِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ ذَلِكَ الْمَالَ، وَكَذَلِكَ قَضَاءُ دَيْنِ الْمَيِّتِ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْمَيِّتُ شَيْئًا وَمَا يَأْخُذُهُ صَاحِبُ الدَّيْنِ يَأْخُذُهُ عِوَضًا عَنْ مِلْكِهِ، وَكَذَلِكَ تَكْفِينُ الْمَيِّتِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَمْلِيكٌ مِنْ الْمَيِّتِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ وَلَا مِنْ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ مَا هُوَ مَشْغُولٌ بِحَاجَةِ الْمَيِّتِ، وَكَذَلِكَ بِنَاءُ الْمَسْجِدِ لَيْسَ فِيهِ تَمْلِيكٌ مِنْ أَحَدٍ

(قَالَ:) وَلَا يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ كَافِرٌ إلَّا عِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ دَفْعَهَا إلَى الذِّمِّيِّ وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إغْنَاءُ الْفَقِيرِ الْمُحْتَاجِ عَلَى طَرِيقِ التَّقَرُّبِ، وَقَدْ حَصَلَ.
(وَلَنَا) قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خُذْهَا مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِهِمْ» فَذَلِكَ تَنْصِيصٌ عَلَى الدَّفْعِ إلَى فُقَرَاءِ مَنْ

الصفحة 202