كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 2)

فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ رُجُوعُهُ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَعَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ زَكَاةُ تِلْكَ السَّنَةِ، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَيْسَ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي مِقْدَارِ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مُسْتَحَقَّةً لِلْفُقَرَاءِ، وَتَعَلُّقُ حَقِّ الْفُقَرَاءِ بِالْمَوْهُوبِ يَمْنَعُ الْوَاهِبَ مِنْ الرُّجُوعِ كَمَا لَوْ جَعَلَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ مَرْهُونًا. وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الرُّجُوعَ إذَا كَانَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَالْمَوْهُوبُ لَهُ أَزَالَ مِلْكَهُ بِاخْتِيَارِهِ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فَيَضْمَنُ الزَّكَاةَ كَمَا لَوْ وَهَبَهُ ابْتِدَاءً، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي مَرَضِهِ كَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ. وَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّ حَقَّ الْوَاهِبِ مَقْصُورٌ عَلَى الْعَيْنِ وَفِي مِثْلِهِ الْقَضَاءُ وَغَيْرُ الْقَضَاءِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُمَا فَعَلَا بِدُونِ الْقَاضِي عَيْنَ مَا يَأْمُرُ بِهِ الْقَاضِي لَوْ رَفَعَا الْأَمْرَ إلَيْهِ، وَالْمَوْهُوبُ لَهُ نَظَرَ لِنَفْسِهِ حِينَ لَمْ يَرَ فِي الْخُصُومَةِ فَائِدَةً فَلَمْ يَكُنْ مُتْلِفًا حَقَّ الْفُقَرَاءِ، وَإِنْ كَانَ فِي مَرَضِهِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ كِلَاهُمَا فِي كِتَابِ الْهِبَةِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ سَوَاءٌ رَجَعَ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ

(قَالَ:) وَإِذَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ الْعُشْرِيَّةُ طَعَامًا فَبَاعَهُ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ عُشْرَهُ فَجَاءَ الْعَاشِرُ وَالطَّعَامُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ عُشْرَ الطَّعَامِ مِنْ الْمُشْتَرِي وَرَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِعُشْرِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ مِنْ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ عَلَى أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ الْحَبَّ يَنْبُتُ عَلَى الْحَقَّيْنِ عُشْرُهُ لِلْفُقَرَاءِ وَتِسْعَةُ أَعْشَارِهِ لِلْمَالِكِ فَلَمْ يَنْفُذْ بَيْعُهُ فِي مِقْدَارِ الْعُشْرِ فَكَانَ لِلْمُصَدِّقِ أَنْ يَأْخُذَ الْعُشْرَ مِنْ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَبَعْدَ الِافْتِرَاقِ بِخِلَافِ زَكَاةِ السَّائِمَةِ. وَعَلَى الطَّرِيقِ الثَّانِي يَجِبُ إيتَاءُ الْعُشْرِ إلَى الْفُقَرَاءِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ حَالِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ فَكَانَ الْعَيْنُ هُوَ الْمَقْصُودُ فَلَا يَبْطُلُ الْحَقُّ عَنْهُ بِالْبَيْعِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّ الْفِعْلَ هُوَ الْمَقْصُودُ فِيهِ بِدَلِيلِ اعْتِبَارِ حَالِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ مِنْ الْبَائِعِ لِإِتْلَافِهِ مَحِلَّ حَقِّ الْفُقَرَاءِ

(قَالَ): وَإِذَا بَاعَ الْأَرْضَ وَفِيهَا زَرْعٌ قَدْ أَدْرَكَ فَعُشْرُ الزَّرْعِ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْفُقَرَاءِ قَدْ ثَبَتَ فِي الزَّرْعِ وَهُوَ مِلْكُ الْبَائِعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِنَفْسِ الْخُرُوجِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ} [البقرة: 267] وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِالْإِدْرَاكِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِالِاسْتِحْكَامِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ حَصَلَ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ وَهُوَ نَمَاءُ أَرْضِهِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ عُشْرُهُ. وَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَقَدْ اسْتَحَقَّهُ عِوَضًا عَمَّا أَعْطَى مِنْ الثَّمَنِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فَإِنْ بَاعَهَا وَالزَّرْعُ بَقْلٌ فَعُشْرُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي إذَا حَصَدَهُ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْعُشْرِ فِي الْحَبِّ وَانْعِقَادُهُ كَانَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَهُوَ نَمَاءُ أَرْضِهِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عُشْرُ مِقْدَارِ الْبَقْلِ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ النَّمَاءِ حَصَلَ فِي مِلْكِهِ، أَمَّا عُشْر الْحَبِّ فَعَلَى الْمُشْتَرِي، وَكَذَلِكَ إنْ بَاعَ الزَّرْعَ وَهُوَ

الصفحة 206