كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 2)

الْعُشْرِ فِي الْخَارِجِ. وَجْهُ قَوْلِنَا مَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَجْتَمِعُ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ فِي أَرْضِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ»، وَلِأَنَّ أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ الْعَدْلِ وَالْجَوْرِ لَمْ يَأْخُذْ الْعُشْرَ مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ مَعَ كَثْرَةِ احْتِيَالِهِمْ لِأَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ وَكَفَى بِالْإِجْمَاعِ حُجَّةً، ثُمَّ الْخَرَاجُ وَالْعُشْرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُؤْنَةُ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ وَلَا يَجْتَمِعُ الْمُؤْنَتَانِ بِسَبَبِ أَرْضٍ وَاحِدَةٍ وَسَبَبُهُمَا لَا يَجْتَمِعُ فَإِنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْخَرَاجِ فَتْحُ الْأَرْضِ عَنْوَةً وَثُبُوتُ حَقِّ الْغَانِمِينَ فِيهَا، وَسَبَبُ وُجُوبِ الْعُشْرِ إسْلَامُ أَهْلِ الْبَلْدَةِ الْبَلْدَةَ طَوْعًا وَعَدَمُ ثُبُوتِ حَقِّ الْغَانِمِينَ فِيهَا، وَبَيْنَهُمَا تَنَافٍ فَإِذَا لَمْ يَجْتَمِعْ السَّبَبَانِ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمَانِ جَمِيعًا

(قَالَ): رَجُلٌ مَاتَ وَلَهُ أَرْضٌ عُشْرِيَّةٌ قَدْ أَدْرَكَ زَرْعَهَا قَالَ: يُؤْخَذُ مِنْهَا الْعُشْرُ. وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا الْعُشْرُ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ لِغَيْرِ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ صَدَقَةِ السَّائِمَةِ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْعَيْنَ هِيَ الْمَقْصُودَةُ هُنَا دُونَ الْفِعْلِ، وَالْعَيْنُ بَاقِيَةٌ بَعْدَ مَوْتِهِ فَيَبْقَى مَشْغُولًا بِحَقِّ الْفُقَرَاءِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ فِعْلُ الْإِيتَاءِ، وَالْفِعْلُ لَا يُمْكِنُ إبْقَاؤُهُ مُسْتَحَقًّا بِبَقَاءِ الْمَالِ فَلِهَذَا سَقَطَ بِالْمَوْتِ

(قَالَ:) رَجُلٌ لَهُ رَطْبَةٌ فِي أَرْضِ الْعُشْرِ وَهِيَ تُقْطَعُ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا قَالَ: يَأْخُذُ مِنْهَا الْعُشْرَ كُلَّمَا قُطِعَتْ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي إيجَابِ الْعُشْرِ فِي الرَّطْبِ فَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلَا يَجِبُ الْعُشْرُ إلَّا فِيمَا لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ، وَمَقْصُودُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْحَوْلَ لَا يُعْتَبَرُ لِإِيجَابِ الْعُشْرِ وَهُوَ ظَاهِرٌ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ لَا يَعْتَبِرُ النِّصَابَ لِإِيجَابِ الْعُشْرِ. وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَالنِّصَابُ مُعْتَبَرٌ وَالْحَوْلُ لَا يُعْتَبَرُ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْحَوْلِ لَتَحَقُّقِ النَّمَاءِ فِي السَّوَائِمِ وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ وَالْعُشْرُ لَا يَجِبُ إلَّا فِيمَا هُوَ نَمَاءٌ مَحْضٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى اعْتِبَارِ الْحَوْلِ فِيهِ

(قَالَ:) وَإِذَا كَانَ صَاحِبُ الْعِنَبِ يَبِيعُهُ مَرَّةً عِنَبًا وَمَرَّةً عَصِيرًا وَمَرَّةً زَبِيبًا بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ بِأَكْثَرَ أُخِذَ الْعُشْرُ فِي جَمِيع ذَلِكَ مِنْ الثَّمَنِ إذَا لَمْ يَكُنْ حَابَى فِيهِ مُحَابَاةً فَاحِشَةً، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْعُشْرَ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَفِيمَا لَا يَبْقَى أَوْ لَا يَبْقَى، أَمَّا عِنْدَهُمَا فَلَا يَجِبُ الْعُشْرُ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِمَّا يَبْقَى فَيُنْظَرُ إلَى هَذَا الْعِنَبِ فَإِنْ كَانَ مِقْدَارٌ يَكُونُ فِيهِ مِنْ الزَّبِيبِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ أَوْ أَكْثَرُ يَجِبُ الْعُشْرُ فَيُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ الثَّمَنِ، كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ وُجُوبَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْمَالِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ مِنْ صَاحِبِهِ، وَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ أَوْ كَانَ عِنَبًا رَطْبًا رَقِيقًا لَا يَصْلُحُ إلَّا لِلْمَاءِ وَلَا يَتَأَتَّى مِنْهُ الزَّبِيبُ فَلَا شَيْءَ فِيهِ عِنْدَهُمَا

الصفحة 208