كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 3)

شَرِيعَتِنَا وَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ الْمُبَاحِ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِلْمُعْتَكِفِ قَالُوا: وَهَذَا إذَا لَمْ يُحْضِرْ السِّلْعَةَ إلَى الْمَسْجِدِ فَأَمَّا إحْضَارُ السِّلْعَةِ إلَى الْمَسْجِدِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي الْمَسْجِدِ مَكْرُوهٌ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «جَنَّبُوا مَسَاجِدَكُمْ» إلَى قَوْلِهِ «وَبَيْعَكُمْ وَشِرَاءَكُمْ»؛ وَلِأَنَّ بُقْعَةَ الْمَسْجِدِ تَحَرَّرَتْ عَنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ وَصَارَتْ خَالِصَةً لِلَّهِ تَعَالَى فَيُكْرَهُ شَغْلُهَا بِالْبَيْعِ وَالتِّجَارَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُحْضِرْ السِّلْعَةَ فَقَدْ انْعَدَمَ هُنَاكَ شَغْلُ الْبُقْعَةِ.

(قَالَ): وَاذَا أَخْرَجَهُ السُّلْطَانُ مِنْ الْمَسْجِدِ مُكْرَهًا فِي اعْتِكَافٍ وَاجِبٍ فَإِنْ دَخَلَ مَسْجِدًا آخَرَ كَمَا تَخَلَّصَ؛ اسْتَحْسَنَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى اعْتِكَافِهِ وَفِي الْقِيَاسِ عَلَيْهِ الِاسْتِقْبَالُ وَكَذَلِكَ لَوْ أَخَذَهُ غَرِيمٌ فَحَبَسَهُ وَقَدْ خَرَجَ لِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: هَذَا الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَالْأَصَحُّ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ وَهَذَا الِاسْتِحْسَانُ وَالْقِيَاسُ عَلَى قَوْلِهِمَا فِيمَا إذَا كَانَ خُرُوجُهُ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ رُكْنَ الِاعْتِكَافِ، وَهُوَ اللُّبْثُ قَدْ فَاتَ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُكْرَهُ وَالطَّائِعُ كَمَا إذَا فَاتَ رُكْنُ الصَّوْمِ بِالْإِكْرَاهِ عَلَى الْأَكْلِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ مَعْذُورٌ فِيمَا صَنَعَ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ مُقَاوَمَةُ السُّلْطَانِ وَلَا دَفْعُ الْغَرِيمِ عَنْ نَفْسِهِ إلَّا بِإِيصَالِ حَقِّهِ إلَيْهِ فَلَمْ يَصِرْ بِهَذَا تَارِكًا تَعْظِيمَ الْبُقْعَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ فِيمَا إذَا انْهَدَمَ الْمَسْجِدُ، فَقَالَ: بَعْضُ مَشَايِخِنَا الْجَوَابُ فِيهِمَا سَوَاءٌ وَالْأَصَحُّ أَنَّ هُنَاكَ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الْعُذْرَ كَانَ مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ إذْ لَا صُنْعَ لِلْعِبَادِ فِي انْهِدَامِ الْمَسْجِدِ، وَهُنَا الْعُذْرُ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ فَلِهَذَا كَانَ الْقِيَاسُ فِيهِ أَنْ يُسْتَقْبَلَ.

(قَالَ): وَإِذَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ الِاعْتِكَافَ يَوْمًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَأَقَامَ فِيهِ إلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الِاعْتِكَافَ فِي جَمِيعِ الْيَوْمِ وَالْيَوْمُ اسْمٌ لِلْوَقْتِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ بِدَلِيلِ الصَّوْمِ.

(قَالَ): وَإِنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ شَهْرٍ دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الشَّهْرَ اسْمٌ لِقِطْعَةٍ مِنْ الزَّمَانِ، وَذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَى الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِيِ، وَمَتَى دَخَلَ فِي اعْتِكَافِهِ اللَّيْلُ مَعَ النَّهَارِ فَابْتِدَاؤُهُ يَكُونُ مِنْ اللَّيْلِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ لَيْلَةٍ تَتْبَعُ الْيَوْمَ الَّذِي بَعْدَهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُصَلِّي التَّرَاوِيحَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ شَوَّالٍ، وَالْيَوْمُ الَّذِي بَعْدَ لَيْلَتِهِ زَمَانُ الِاعْتِكَافِ فَكَذَلِكَ اللَّيْلَةُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: فِي شَهْرٍ بِعَيْنِهِ كَذَلِكَ يَدْخُلُ فِي الْمَسْجِدِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَأَمَّا فِي شَهْرٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَالْخِيَارُ إلَيْهِ إنْ شَاءَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَإِنْ شَاءَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَهُوَ أَفْضَلُ.

(قَالَ): وَإِنْ أَوْجَبَ اعْتِكَافَ

الصفحة 122