كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 3)

الْحَرْبِيِّ لَا يَكُونُ قُرْبَةً
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُتَنَفَّلُ بِهِ، وَقَدْ نُهِينَا عَنْ مَبَرَّةِ أَهْلِ الْحَرْبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة: 9] فَلَا يَقَعُ فِعْلُهُ مَوْقِعَ الصَّدَقَةِ بِخِلَافِ التَّصَدُّقِ بِهِ عَلَى الذِّمِّيِّ فَإِنَّهُ يَقَعُ مَوْقِعَ الصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّا لَمْ نُنْهَ عَنْ الْمَبَرَّةِ مَعَ مَنْ لَا يُقَاتِلُنَا وَلِهَذَا جَازَ التَّنْفِيلُ بِهِ

(قَالَ): وَلَوْ دَخَلَ مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَمَكَثَ فِيهَا سَنَتَيْنِ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِي الْمَالِ الَّذِي خَلَّفَ وَفِيمَا أَفَادَ فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ حَيْثُ مَا يَكُونُ إلَّا أَنَّ مَالَهُ الَّذِي خَلَّفَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إذَا كَانَ مِنْ السَّوَائِمِ فَلِلسُّلْطَانِ حَقُّ أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْهُ بِخِلَافِ مَا أَفَادَ فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ فِيمَا أَفَادَ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَدْ انْعَدَمَتْ الْحِمَايَةُ مِنْ إمَامِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الزَّكَاةَ مِنْهَا وَلَكِنْ يَعْنِي مَنْ عَلَيْهِ بِالْأَدَاءِ إلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِخِلَافِ مَا إذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إلَى أَهْلِ بَلَدِهِ لِأَنَّ فُقَرَاءَ أَهْلِ بَلَدِهِ لَهُمْ حَقُّ الْمُجَاوَرَةِ مَعَ الْحَاجَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ فَأَمَّا فِي دَارِ الْحَرْبِ قَلَّ مَا يَجِدُ فُقَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ وَجَدَهُمْ فَالْفُقَرَاءُ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ مِنْ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَنْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَوْ نَقَلَ صَدَقَةَ بَلَدِهِ إلَى فُقَرَاءِ بَلْدَةٍ أُخْرَى هُمْ أَفْضَلُ مِنْ فُقَرَاءِ أَهْلِ بَلْدَتِهِ فَذَلِكَ أَوْلَى بِهِ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَسَيْفٌ فِيهِ فِضَّةٌ مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ فَعَلَيْهِ فِيهِ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الْفِضَّةِ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ فَحِلْيَةُ السَّيْفِ وَغَيْرُهَا مِنْ ذَلِكَ سَوَاءٌ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ بِهِ

(قَالَ): وَلَوْ كَانَتْ لَهُ أَوَانٍ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِلِاسْتِعْمَالِ لَا لِلتِّجَارَةِ فَعَلَيْهِ فِيهَا الزَّكَاةُ بِخِلَافِ اللُّؤْلُؤِ وَالْيَاقُوتِ وَالْجَوَاهِرِ إذَا لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ فَإِنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهَا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِيهَا بِاعْتِبَارِ مَعْنَى النَّمَاءِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ فِيهَا كَسَائِرِ الْعُرُوضِ فَأَمَّا وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِاعْتِبَارِ عَيْنِهَا وَالْعَيْنُ لَا تَتَبَدَّلُ بِالصَّنْعَةِ، وَلَا بِالِاسْتِعْمَالِ ثُمَّ لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا، وَلَا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ أَنَّهُ كَيْفَ يُؤَدِّي الزَّكَاةَ مِنْ الْأَوَانِي الْمَصُوغَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: إذَا كَانَ لَهُ إنَاءٌ مَصُوغٌ مِنْ الْفِضَّةِ وَزْنُهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَإِمَّا أَنْ يَتَصَدَّقَ بِرُبْعِ عُشْرِهِ عَلَى فَقِيرٍ فَيَكُونَ شَرِيكًا لَهُ فِي ذَلِكَ، أَوْ يُؤَدِّيَ قِيمَةَ رُبْعِ عُشْرِهِ مِنْ الذَّهَبِ فَإِنْ أَدَّى خَمْسَةَ دَرَاهِمَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ جَمِيعُ الزَّكَاةِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ فَضْلَ الْقِيمَةِ، وَهَذَا صَحِيحٌ عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فِيمَا يُؤَدَّى مَعَ الْمُجَانَسَةِ فَإِنَّهُ لَا رِبَا فِي أَدَاءِ الزَّكَاةِ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ أَدَّى خَمْسَةَ دَرَاهِمَ تَسْقُطُ عَنْهُ

الصفحة 37