كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 3)

لِإِجْمَاعِنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُبَاحُ صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ بِنِيَّةِ الْفَرْضِ فَلَوْلَا أَنَّ عِنْدَ التَّبَيُّنِ يَجُوزُ الصَّوْمُ عَنْ الْفَرْضِ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا التَّحَرُّزِ مِنْهُمَا مَعْنًى ثُمَّ هَذَا صَوْمُ عَيْنٍ فَيَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ كَالنَّفْلِ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ هُوَ الْمَشْرُوعُ فِيهِ وَغَيْرُهُ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ أَصْلًا وَالْمُتَعَيِّنُ فِي زَمَانٍ كَالْمُتَعَيِّنِ فِي مَكَان فَيَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْجِنْسِ كَمَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ النَّوْعِ وَمَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي أَصْلِ الصَّوْمِ يَتَحَقَّقُ لِبَقَاءِ الِاخْتِيَارِ لِلْعَبْدِ فِيهِ وَلَا يَتَحَقَّقُ فِي الصِّفَةِ إذْ لَا اخْتِيَارَ لَهُ فِيهَا فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ إبْدَالُ هَذَا الْوَصْفِ بِوَصْفٍ آخَرَ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ نِيَّةِ الصِّفَةِ وَنِيَّةِ النَّفْلِ وَلَغْوٌ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ النَّفَلَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الْفَرْضِ يَكُونُ بِنِيَّةِ النَّفْلِ فَإِذَا لَغَتْ نِيَّةُ النَّفْلِ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْإِعْرَاضُ، وَهُوَ نَظِيرُ الْحَجِّ عَلَى قَوْلِهِ وَبِهِ يَبْطُلُ قَوْلُهُ أَنَّهُ لَوْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ نَفْلٌ يَكْفُرُ وَعَلَى هَذَا قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمُسَافِرِ إذَا نَوَى وَاجِبًا آخَرَ فِي رَمَضَانَ وَقَعَ عَنْ فَرْضِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ حَتَّى لَوْ أَدَّى جَازَ وَإِنَّمَا يُفَارِقُ الْمُقِيمَ فِي التَّرَخُّصِ بِالْفِطْرِ فَإِذَا لَمْ يَتَرَخَّصْ كَانَ هُوَ وَالْمُقِيمُ سَوَاءٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: يَقَعُ صَوْمُهُ عَمَّا نَوَى؛ لِأَنَّهُ مَا تَرَكَ التَّرَخُّصَ حِينَ قَصَدَ صَرْفَ مَنَافِعِهِ إلَى مَا هُوَ الْأَهَمُّ، وَهُوَ مَا تَقَرَّرَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَهَذِهِ الرُّخْصَةُ لِدَفْعِ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ عَنْهُ فَكَانَ مِنْ مَصَالِحِ بَدَنِهِ وَفِي هَذِهِ النِّيَّةِ اعْتِبَارُ الْمَصْلَحَةِ أَنْ يَصُومَ، أَوْ يُفْطِرَ فَصَحَّ مِنْهُ؛ وَلِأَنَّ رَمَضَانَ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ كَشَعْبَانَ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَصُومَ أَوْ يُفْطِرَ فَإِنْ نَوَى الْمُسَافِرُ النَّفَلَ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْهُ يَقَعُ عَنْ فَرْضِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ التَّرَخُّصَ وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ يَقَعُ عَنْ النَّفْلِ؛ لِأَنَّ رَمَضَانَ فِي حَقِّهِ كَشَعْبَانَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ.
فَأَمَّا الْمَرِيضُ إذَا نَوَى وَاجِبًا آخَرَ فَالصَّحِيحُ أَنَّ صَوْمَهُ يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ إبَاحَةَ الْفِطْرِ لَهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ أَدَاءِ الصَّوْمِ فَأَمَّا عِنْدَ الْقُدْرَةِ هُوَ وَالصَّحِيحُ سَوَاءٌ بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ، وَذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الْجَوَابَ فِي الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ سَوَاءٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ سَهْوٌ أَوْ مُؤَوَّلٌ وَمُرَادُهُ مَرِيضٌ يُطِيقُ الصَّوْمَ وَيَخَافُ مِنْهُ زِيَادَةَ الْمَرَضِ وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي وَقْتِ النِّيَّةِ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ أَوَّلَهُ مِنْ وَقْتِ غُرُوبِ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعِبَادَاتِ اقْتِرَانُ النِّيَّةِ بِحَالِ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ إلَّا أَنَّ وَقْتَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ وَقْتٌ مُشْتَبَهٌ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا مَنْ يَعْرِفُ النُّجُومَ وَسَاعَاتِ اللَّيْلِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ وَقْتُ نَوْمٍ وَغَفْلَةٍ وَالْمُتَهَجِّدُ بِاللَّيْلِ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَنَامَ سَحَرًا فَلِدَفْعِ الْحَرَجِ جَوَّزَ لَهُ بِنِيَّةٍ مُتَقَدِّمَةٍ عَلَى حَالَةِ الشُّرُوعِ، وَإِنْ كَانَ غَافِلًا عَنْهُ عِنْدَ الشُّرُوعِ بِأَنْ تُجْعَلَ

الصفحة 61