كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 3)

يَصُومَانِ يَوْمَ الشَّكِّ كَمَا رَوَيْنَا؛ وَلِأَنَّ هَذَا الْيَوْمَ مِنْ شَعْبَانَ؛ لِأَنَّ الْيَقِينَ لَا يُزَالُ بِالشَّكِّ وَالصَّوْمُ مِنْ شَعْبَانَ تَطَوُّعًا مَنْدُوبٌ إلَيْهِ كَمَا فِي سَائِرِ أَيَّامِهِ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا كَانَ يَصُومُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي شَعْبَانَ فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ» وَتَأْوِيلُ النَّهْيِ أَنْ يَنْوِيَ الْفَرْضَ فِيهِ وَبِهِ نَقُولُ.
(قَالَ): إلَّا أَنْ يَكُونَ أَبْصَرَ الْهِلَالَ وَحْدَهُ وَرَدَّ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ وَإِنَّمَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ إذَا كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ السَّمَاءُ مُغَيِّمَةً أَوْ جَاءَ مِنْ خَارِجِ الْمِصْرِ، أَوْ كَانَ مِنْ مَوْضِعٍ نَشِزٍ فَإِنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ قَالَ؛ لِأَنَّ تُهْمَةَ الْكَذِبِ إذَا كَانَ بِالسَّمَاءِ غَيْمٌ أَظْهَرَ فَإِنَّ الْغَيْمَ مَانِعٌ مِنْ الرُّؤْيَةِ فَإِذَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ عِنْدَ عَدَمِ الْمَانِعِ فَعِنْدَ قِيَامِهِ أَوْلَى.
(وَلَنَا) حَدِيثُ عِكْرِمَةَ عَلَى مَا رَوَيْنَاهُ ثُمَّ هُوَ مُخْبِرٌ بِأَمْرٍ دِينِيٍّ، وَهُوَ وُجُوبُ أَدَاءِ الصَّوْمِ عَلَى النَّاسِ فَوَجَبَ قَبُولُ خَبَرِهِ إذَا لَمْ يُكَذِّبْهُ الظَّاهِرُ كَمَنْ رَوَى حَدِيثًا، وَهَذَا الظَّاهِرُ لَا يُكَذِّبُهُ فَلَعَلَّهُ تَقَشَّعَ الْغَيْمُ عَنْ مَوْضِعِ الْقَمَرِ فَاتَّفَقَتْ لَهُ الرُّؤْيَةُ دُونَ غَيْرِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يُكَذِّبُهُ فَإِنَّهُ مُسَاوٍ لِلنَّاسِ فِي الْمَوْقِفِ وَالْمَنْظَرِ وَحِدَةِ الْبَصَرِ وَمَوْضِعِ الْقَمَرِ فَإِذَا رَدَّ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ وَلَا يُفْطِرُ إلَّا عَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ يَعْتَمِدُ ظَاهِرَ قَوْله تَعَالَى {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ»، وَهَذَا لَيْسَ بِيَوْمِ الصَّوْمِ فِي حَقِّ الْجَمَاعَةِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْوَاحِدِ.
(وَلَنَا) قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا»؛ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الصَّوْمِ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ أَمْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْحُكْمُ، وَقَدْ كَانَ لَزِمَهُ الصَّوْمُ قَبْلَ أَنْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ فَكَذَلِكَ بَعْدَهُ فَإِنْ أَفْطَرَ بِالْجِمَاعِ لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ يَقُولُ: إنَّهُ مُتَيَقِّنٌ أَنَّ الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ إذْ لَا طَرِيقَ لِلتَّيَقُّنِ أَقْوَى مِنْ الرُّؤْيَةِ وَتَيَقُّنُهُ لَا يَتَغَيَّرُ بِشَكِّ غَيْرِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ فِيهِ عَنْ الْفَرْضِ، وَيَوْمُ الشَّكِّ يُنْهَى فِيهِ عَنْ مِثْلِهِ وَكَمَا أَنَّ وُجُوبَ الصَّوْمِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ فَكَذَلِكَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ الْفِطْرِ.
(وَلَنَا) أَنَّهُ مُفْطِرٌ بِالشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ حِينَ رَدَّ شَهَادَتَهُ فَقَدْ حَكَمَ بِأَنَّهُ كَاذِبٌ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ أَوْجَبَ لَهُ الْحُكْمَ بِهِ، وَلَوْ كَانَ حُكْمُهُ هَذَا حَقًّا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لَكَانَ يُبَاحُ الْفِطْرُ لَهُ فَإِذَا كَانَ نَافِذًا ظَاهِرًا يَصِيرُ شُبْهَةً وَكَفَّارَةُ الْفِطْرِ عُقُوبَةٌ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ حَتَّى لَا يَجِبُ عَلَى الْمُخْطِئِ ثُمَّ الْكَفَّارَةُ إنَّمَا وَجَبَتْ بِالْفِطْرِ فِي يَوْمِ رَمَضَانَ مُطْلَقًا، وَهَذَا الْيَوْمُ رَمَضَانُ مِنْ وَجْهٍ شَعْبَانُ مِنْ وَجْهٍ

الصفحة 64