كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 3)

تَلَاهَا مَرَّةً أُخْرَى لَمْ تَلْزَمْهُ سَجْدَةٌ أُخْرَى لِاتِّحَادِ السَّبَبِ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ التَّدَاخُلَ قَبْلَ أَدَاءِ الْأَوَّلِ لَا بَعْدَهُ كَمَا فِي الْحُدُودِ إذَا زَنَى بِامْرَأَةٍ فَحُدَّ ثُمَّ زَنَى بِهَا يَلْزَمُهُ حَدٌّ آخَرَ، وَهَذَا أَصَحُّ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ فِطْرٌ هُوَ جِنَايَةٌ عَلَى الصَّوْمِ وَحُرْمَةُ الشَّهْرِ مَحَلٌّ تُغَلَّظُ بِهِ هَذِهِ الْجِنَايَةُ وَالْعِبْرَةُ لِلْأَسْبَابِ دُونَ الْمَحَالِّ، فَإِنْ جَامَعَ فِي رَمَضَانَيْنِ فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْكِسَائِيَّاتِ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَتَيْنِ لِاعْتِبَارِ تَجَدُّدِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ وَالصَّوْمِ وَأَكْثَرُ مَشَايِخنَا يَقُولُونَ: لَا اعْتِمَادَ عَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةً وَاحِدَةً لِاعْتِبَارِ مَعْنَى التَّدَاخُلِ

(قَالَ): وَكُلُّ صَوْمٍ فِي الْقُرْآنِ لَمْ يَذْكُرْهُ اللَّهُ مُتَتَابِعًا فَلَهُ أَنْ يُفَرِّقَهُ وَمَا ذَكَرَ مُتَتَابِعًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَهُ أَمَّا الْمَذْكُورُ مُتَتَابِعًا فَصَوْمُ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَكَفَّارَةُ الظِّهَارِ فَإِنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِقَدْرٍ مَعْلُومٍ مُقَيَّدٍ بِوَصْفٍ فَكَمَا لَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِالْقَدْرِ الْمَنْصُوصِ فَكَذَا بِالْوَصْفِ الْمَنْصُوصِ فَأَمَّا مَا لَمْ يَذْكُرْهُ مُتَتَابِعًا فَصَوْمُ الْقَضَاءِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] وَيَجُوزُ الْقَضَاءُ مُتَتَابِعًا وَمُتَفَرِّقًا؛ لِأَنَّهُ مُطْلَقٌ عَنْ الْوَصْفِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - انْهَمُوا مَا أَنْهَمَ اللَّهُ وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ عَنْ قَضَاءِ أَيَّامٍ مِنْ رَمَضَانَ أَفَيُجْزِينِي أَنْ أَصُومَ مُتَفَرِّقًا فَقَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَيْك دَيْنٌ فَقَضَيْت الدِّرْهَمَ وَالدِّرْهَمَيْنِ أَكَانَ يُقْبَلُ مِنْك فَقَالَ: نَعَمْ فَقَالَ: اللَّهُ أَحَقُّ بِالتَّجَاوُزِ وَالْقَبُولِ» وَاَلَّذِي فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مُتَتَابِعَةٍ شَاذٌّ غَيْرُ مَشْهُورٍ وَبِمِثْلِهِ لَا تَثْبُتُ الزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ فَأَمَّا صَوْمُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
(قَالَ): إنَّهُ مُطْلَقٌ فِي الْقُرْآنِ وَنَحْنُ أَثْبَتْنَا التَّتَابُعَ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَإِنَّهَا كَانَتْ مَشْهُورَةً إلَى زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَتَّى كَانَ سُلَيْمَانُ الْأَعْمَشُ يَقْرَأُ خَتْمًا عَلَى حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَخَتْمًا مِنْ مُصْحَفِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالزِّيَادَةُ عِنْدَنَا تَثْبُتُ بِالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ

(قَالَ): رَجُلٌ جَامَعَ امْرَأَتَهُ فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ حَاضَتْ الْمَرْأَةُ وَمَرِضَ الرَّجُلُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ سَقَطَتْ عَنْهُمَا الْكَفَّارَةُ عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تَسْقُطُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ عَلَى الْمَرْأَةِ. وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: تَسْقُطُ عَنْهَا بِعُذْرِ الْحَيْضِ وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ بِعُذْرِ الْمَرَضِ وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْكَفَّارَةِ قَدْ تَمَّ، وَهُوَ الْفِطْرُ فَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ وَالْحَيْضُ وَالْمَرَضُ لَا يُنَافِي بَقَاءَ الْكَفَّارَةِ ثُمَّ الْحَيْضُ وَالْمَرَضُ لَمْ يُصَادِفُ الصَّوْمَ هُنَا فَاعْتِرَاضُهُمَا فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلِ سَوَاءٌ، وَهُوَ قِيَاسُ السَّفَرِ بَعْدَ الْفِطْرِ لَا يُسْقِطُ الْكَفَّارَةَ لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا وَزُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -

الصفحة 75