كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 3)

غَيْرُ مُتَيَقِّنٍ بِالسَّبَبِ وَالْأَصْلُ بَقَاءُ اللَّيْلِ. وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادَةَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: إنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ يَسْتَبِينُ لَهُ الْفَجْرُ فَلَا يَلْتَفِتُ إلَى الشَّكِّ وَلَكِنَّهُ يَأْكُلُ إلَى أَنْ يَسْتَيْقِنَ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ، وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَسْتَبِينُ لَهُ الْفَجْرُ، أَوْ كَانَتْ اللَّيْلَةُ مُقْمِرَةً فَالْأَوْلَى أَنْ يَحْتَاطَ، وَإِنْ أَكَلَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ أَكَلَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ بِمَنْزِلَةِ التَّيَقُّنِ فِيمَا يُبْنَى أَمْرُهُ عَلَى الِاحْتِيَاطِ

(قَالَ): وَإِنْ صَامَ أَهْلُ الْمِصْرِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَلَمْ يَصُمْ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّى أَبْصَرَ الْهِلَالَ مِنْ الْغَدِ فَصَامَ أَهْلُ الْمِصْرِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَالرَّجُلُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا فَلَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ قَضَاءُ شَيْءٍ وَقَدْ أَخْطَأَ أَهْلُ الْمِصْرِ حِينَ صَامُوا بِغَيْرِ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا» فَأَهْلُ الْمِصْرِ خَالَفُوا أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانُوا مُخْطِئِينَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يُرْجَعُ إلَى قَوْلِ أَهْلِ الْحِسَابِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ، وَهَذَا بَعِيدٌ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ أَتَى كَاهِنًا، أَوْ عَرَّافًا وَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» وَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ» مَعْنَاهُ التَّقْدِيرُ بِإِكْمَالِ الْعِدَّةِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُبَيَّنِ وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ قَضَاءُ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ قَدْ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا» وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ وَخَنَسَ إبْهَامَهُ فِي الثَّالِثَةِ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «مَا صُمْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَمَضَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا أَكْثَرَ مِمَّا صُمْنَا ثَلَاثِينَ يَوْمًا» وَهَكَذَا عَنْ عَائِشَةَ فَلَمْ يَتَبَيَّنْ خَطَأَ الرَّجُلِ فِيمَا صَنَعَ فَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ شَيْءٍ وَاَلَّذِي رَوَى «شَهْرَانِ لَا يَنْقُصَانِ رَمَضَانُ وَذُو الْحَجَّةِ» الْمُرَادُ فِي حَقِّ الثَّوَابِ دُونَ الْعَدَدِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَقَعَ الْخَلَفُ فِي خَبَرِ صَاحِبِ الشَّرْعِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْمِصْرِ رَأَوْا هِلَالَ شَعْبَانَ فَأَحْصَوْا ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صَامُوا فَقَدْ أَحْسَنُوا وَعَلَى مَنْ لَمْ يَصُمْ مَعَهُمْ قَضَاءُ يَوْمٍ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّهُ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَعَلَى هَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُمْ لَوْ صَامُوا بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَصَامُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ لَمْ يَرَوْا الْهِلَالَ أَفْطَرُوا؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَقَدْ أَلْزَمَهُ ابْنُ سِمَاعَةَ فَقَالَ: هَذَا فِطْرٌ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ، وَأَنْتَ لَا تَرَى ذَلِكَ، وَهَذَا إلْزَامٌ ظَاهِرٌ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْفِطْرَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَذَلِكَ بِمُقْتَضَيْ الشَّهَادَةِ وَيَثْبُتُ بِمِثْلِهِ مَا لَا يَثْبُتُ بِنَفْسِ الشَّهَادَةِ كَالْمِيرَاثِ عِنْدَ شَهَادَةِ الْقَابِلَةِ

الصفحة 78