كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 3)

يَسْتَنِدُ حُكْمُ النِّيَّةِ إلَيْهِ بِخِلَافِ صَوْمِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ مُتَعَيِّنٌ فِي وَقْتِهِ فَيَتَوَقَّفُ إمْسَاكُهُ عَلَيْهِ فَيَسْتَنِدُ حُكْمُ النِّيَّةِ ثُمَّ إقَامَةُ النِّيَّةِ فِي أَكْثَرِ الْوَقْتِ مَقَامَ النِّيَّةِ فِي جَمِيعِهِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ وَذَلِكَ فِيمَا يُفَوِّتُهُ دُونَ مَا لَا يُفَوِّتُهُ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ يُفَوِّتُهُ عَنْ وَقْتِهِ وَالنَّفَلُ لَا يُفَوِّتُهُ أَصْلًا فَأَمَّا مَا كَانَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ لَا يَفُوتُ فَلَا تُقَامُ النِّيَّةُ فِي أَكْثَرِ الْوَقْتِ فِي حَقَّةِ مَقَامَ النِّيَّةِ فِي جَمِيعِهِ

(قَالَ): وَلَا يَكُونُ صَائِمًا فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ مَا لَمْ يَنْوِ الصَّوْمَ، وَإِنْ اجْتَنَبَ الْمُفْطِرَاتِ إلَى آخِرِ يَوْمِهِ بِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِ مَرَضٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا قَوْلَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ إنَّهُ يَتَأَدَّى مِنْهُ الصَّوْمُ بِمُجَرَّدِ الْإِمْسَاكِ مِنْ غَيْرِ النِّيَّةِ فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ صَائِمًا مَا لَمْ يَنْوِ وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَا لَمْ يَنْوِ مِنْ اللَّيْلِ قَالَ: لِأَنَّ الْأَدَاءَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْوَقْتِ نَفْسِهِ فَلَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِنِيَّتِهِ بِخِلَافِ الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ وَعِنْدَنَا اشْتِرَاطُ النِّيَّةِ لِيَصِيرَ الْفِعْلُ قُرْبَةً فَإِنَّ الْإِخْلَاصَ وَالْقُرْبَةَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالنِّيَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] فَفِي هَذَا الْمُسَافِرُ وَالْمُقِيمُ سَوَاءٌ إنَّمَا فَارَقَ الْمُسَافِرُ الْمُقِيمَ فِي التَّرْخِيصِ بِالْفِطْرِ فَإِذَا لَمْ يَتَرَخَّصْ صَحَّتْ مِنْهُ النِّيَّةُ قَبْلَ انْتِصَافِ النَّهَارِ كَمَا تَصِحُّ مِنْ الْمُقِيمِ

(قَالَ): فَإِنْ أَصْبَحَ بِنِيَّةِ الْفِطْرِ فَظَنَّ أَنَّ نِيَّتَهُ هَذِهِ قَدْ أَفْسَدَتْ عَلَيْهِ صَوْمَهُ وَأُفْتِيَ بِذَلِكَ فَأَكَلَ قَبْلَ انْتِصَافِ النَّهَارِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ الَّتِي دَخَلَتْ، وَهُمَا فَصْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إذَا أَصْبَحَ نَاوِيًا لِلصَّوْمِ ثُمَّ نَوَى الْفِطْرَ لَا يَبْطُلُ بِهِ صَوْمُهُ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَبْطُلُ فَإِنَّ الشُّرُوعَ فِي الصَّوْمِ لَا يَسْتَدْعِي فِعْلًا سِوَى نِيَّةِ الصَّوْمِ فَكَذَلِكَ الْخُرُوجُ لَا يَسْتَدْعِي فِعْلًا سِوَى النِّيَّةِ؛ وَلِأَنَّ النِّيَّةَ شَرْطُ أَدَاءِ الصَّوْمِ، وَقَدْ أَبْدَلَهُ بِضِدِّهِ وَبِدُونِ الشَّرْطِ لَا تَتَأَدَّى الْعِبَادَةُ.
(وَلَنَا) الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَيْنَا «الْفِطْرُ مِمَّا يَدْخُلُ» وَبِنِيَّتِهِ مَا وَصَلَ شَيْءٌ إلَى بَاطِنِهِ ثُمَّ هَذَا حَدِيثُ النَّفْسِ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ يَعْمَلُوا أَوْ يَتَكَلَّمُوا» وَكَمَا أَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ لَا يَكُونُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ فَكَذَلِكَ مِنْ الصَّوْمِ وَبِالِاتِّفَاقِ اقْتِرَانُ النِّيَّةِ بِحَالَةِ الْأَدَاءِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مُغْمًى عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الْيَوْمِ يَتَأَدَّى صَوْمُهُ فَفِي هَذَا الْفَصْلِ إذَا أُفْتِيَ بِأَنَّ صَوْمَهُ لَا يَجُوزُ فَأَفْطَرَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ لِشُبْهَةِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّ عَلَى الْعَامِّيِّ أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِ الْمُفْتِي، وَإِنْ كَانَ أَصْبَحَ غَيْرَ نَاوٍ لِلصَّوْمِ ثُمَّ أَكَلَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ أَكَلَ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إنْ أَكَلَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ أَكَلَ بَعْدَ الزَّوَالِ

الصفحة 86