كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 3)

فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ قَالَ: لِأَنَّ قَبْلَ الزَّوَالِ حُكْمُ الْإِمْسَاكِ مَوْقُوفٌ عَلَى أَنْ يَصِيرَ صَائِمًا بِنِيَّتِهِ فَصَارَ بِأَكْلِهِ جَانِيًا مُفَوِّتًا لِلصَّوْمِ فَأَمَّا بَعْدَ الزَّوَالِ إمْسَاكُهُ غَيْرُ مَوْقُوفٍ عَلَى أَنْ يَصِيرَ صَوْمًا بِالنِّيَّةِ فَلَمْ يَكُنْ فِي أَكْلِهِ جَانِيًا عَلَى الصَّوْمِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: الْكَفَّارَةُ تَسْتَدْعِي كَمَالَ الْجِنَايَةِ، وَذَلِكَ بِهَتْكِ حُرْمَةِ الصَّوْمِ وَالشَّهْرِ جَمِيعًا، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ هَتْكُ حُرْمَةِ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ صَائِمًا قَبْلَ أَنْ يَنْوِيَ فَتَجَرَّدَ هَتْكُ حُرْمَةِ الشَّهْرِ عَنْ حُرْمَةِ الصَّوْمِ، وَهُوَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْكَفَّارَةِ كَمَا لَوْ تَجَرَّدَ هَتْكُ حُرْمَةِ الصَّوْمِ عَنْ هَتْكِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ بِأَنْ أَفْطَرَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ سَوَاءٌ أَكَلَ قَبْلَ الزَّوَالِ، أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ هُوَ صَائِمٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ

(قَالَ): فَإِنْ أَصْبَحَ غَيْرَ نَاوٍ لِلصَّوْمِ ثُمَّ نَوَى قَبْلَ الزَّوَالِ ثُمَّ أَكَلَ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ شُرُوعَهُ فِي الصَّوْمِ قَدْ صَحَّ فَتَكَامَلَتْ جِنَايَتُهُ بِالْفِطْرِ كَمَا لَوْ كَانَ نَوَى بِاللَّيْلِ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَعْزِمْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ» يَنْفِي كَوْنَهُ صَائِمًا بِهَذِهِ النِّيَّةِ، وَالْحَدِيثُ وَإِنْ تُرِكَ الْعَمَلُ بِظَاهِرِهِ يَبْقَى شُبْهَةً فِي دَرْءِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَمَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ ابْنِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيك» ثُمَّ هَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ لَوْ أَكَلَ قَبْلَ النِّيَّةِ لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ وَمَا كَانَ مَوْجُودًا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ يَصِيرُ شُبْهَةً فِي آخِرِهِ كَالسَّفَرِ إنَّمَا الشُّبْهَةُ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعُذْرُهُ مَا بَيَّنَّا

(قَالَ): الْمُغْمَى عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الشَّهْرِ إذَا أَفَاقَ بَعْدَ مُضِيِّهِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ إلَّا عَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فَإِنَّهُ يَقُولُ: سَبَبُ وُجُودِ الْأَدَاءِ، وَهُوَ شُهُودُ الشَّهْرِ لَمْ يَتَحَقَّقْ فِي حَقِّهِ لِزَوَالِ عَقْلِهِ بِالْإِغْمَاءِ وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ يَنْبَنِي عَلَيْهِ.
(وَلَنَا) أَنَّ الْإِغْمَاءَ مَرَضٌ، وَهُوَ عُذْرٌ فِي تَأْخِيرِ الصَّوْمِ إلَى زَوَالِهِ لَا فِي إسْقَاطِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِغْمَاءَ يُضْعِفُ الْقُوَى وَلَا يُزِيلُ الْحِجَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُولِيًا عَلَيْهِ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اُبْتُلِيَ بِالْإِغْمَاءِ فِي مَرَضِهِ، وَكَانَ مَعْصُومًا عَمَّا يُزِيلُ الْعَقْلَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ} [الطور: 29] فَإِذَا كَانَ مَجْنُونًا فِي جَمِيعِ الشَّهْرِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ يَقُولُ: الْجُنُونُ مَرَضٌ يُخِلُّ الْعَقْلَ فَيَكُونُ عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ إلَى زَوَالِهِ لَا فِي إسْقَاطِ الصَّوْمِ كَالْإِغْمَاءِ وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ» وَمَنْ كَانَ مَرْفُوعًا عَنْهُ الْقَلَمُ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْخِطَابُ بِأَدَاءِ الصَّوْمِ وَالْقَضَاءُ يَنْبَنِي عَلَيْهِ

الصفحة 87