كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 3)

ثُمَّ الْجُنُونُ يُزِيلُ عَقْلَهُ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعَهُ شُهُودُ الشَّهْرِ، وَهُوَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلصَّوْمِ بِخِلَافِ الْإِغْمَاءِ فَإِنَّهُ يُعْجِزُهُ عَنْ اسْتِعْمَالِ عَقْلِهِ وَلَا يُزِيلُهُ فَلِذَلِكَ جُعِلَ شَاهِدًا لِلشَّهْرِ حُكْمًا، وَهُوَ كَابْنِ السَّبِيلِ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ لِقِيَامِ مِلْكِهِ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ إثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَنْ هَلَكَ مَالُهُ.
(قَالَ): فَإِنْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ فَعَلَيْهِ صَوْمُ مَا بَقِيَ مِنْ الشَّهْرِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى فِي الْقِيَاسِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَوْعَبَ الشَّهْرَ كُلَّهُ مُنِعَ الْقَضَاءُ فِي الْكُلِّ فَإِذَا وُجِدَ فِي بَعْضِهِ يُمْنَعُ الْقَضَاءُ بِقَدْرِهِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَقِيَاسًا عَلَى الصَّبِيِّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ الْمَجْنُونِ فَإِنَّهُ نَاقِصُ الْعَقْلِ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ عَدِيمُ الْعَقْلِ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ، وَالْمَجْنُونُ عَدِيمُ الْعَقْلِ بَعِيدٌ عَنْ الْإِصَابَةِ عَادَةً، وَلِهَذَا جَازَ إعْتَاقُ الصَّغِيرِ عَنْ الْكَفَّارَةِ دُونَ الْمَجْنُونِ فَإِذَا كَانَ الصِّغَرُ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَضَاءِ فَالْجُنُونُ أَوْلَى اسْتَحْسَنَ عُلَمَاؤُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، وَالْمُرَادُ مِنْهُ شُهُودُ بَعْضِ الشَّهْرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ السَّبَبُ شُهُودَ جَمِيعِ الشَّهْرِ لَوَقَعَ الصَّوْمُ فِي شَوَّالٍ فَصَارَ بِهَذَا النَّصِّ شُهُودُ جُزْءٍ مِنْ الشَّهْرِ سَبَبًا لِوُجُوبِ صَوْمِ جَمِيعِ الشَّهْرِ إلَّا فِي مَوْضِعٍ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ، ثُمَّ الْجُنُونُ عَارِضٌ أَعْجَزَهُ عَنْ صَوْمِ بَعْضِ الشَّهْرِ مَعَ بَقَاءِ أَثَرِ الْخِطَابِ فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ كَالْإِغْمَاءِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَجَّ ثُمَّ جُنَّ بَقِيَ الْمُؤَدَّى فَرْضًا لَهُ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ صَلَّى الْفَرْضَ ثُمَّ جُنَّ، وَبَقَاءُ الْمُؤَدَّى فَرْضًا دَلِيلُ بَقَاءِ أَثَرِ الْخِطَابِ، فَأَمَّا إذَا اسْتَوْعَبَ الْجُنُونُ الشَّهْرَ كُلَّهُ فَإِنَّمَا أَسْقَطْنَا الْقَضَاءَ لَا لِانْعِدَامِ أَثَرِ الْخِطَابِ بَلْ لِدَفْعِ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ، وَالْحَرَجُ عُذْرٌ مُسْقِطٌ لِلْقَضَاءِ كَالْحَيْضِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ فَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ الْوُجُوبَ فِي الذِّمَّةِ، وَلَا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ بِسَبَبِ الصِّبَا وَلَا بِسَبَبِ الْجُنُونِ وَلَا بِسَبَبِ الْإِغْمَاءِ إلَّا أَنَّ الصِّبَا يَطُولُ عَادَةً فَيَكُونُ مُسْقِطًا لِلْقَضَاءِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ، وَالْإِغْمَاءُ لَا يَطُولُ عَادَةً فَلَا يَكُونُ مُسْقِطًا لِلْقَضَاءِ وَالْجُنُونُ قَدْ يَطُولُ وَقَدْ يَقْصُرُ فَإِذَا طَالَ الْتَحَقَ بِمَا يَطُولُ عَادَةً، وَإِذَا قَصُرَ الْتَحَقَ بِمَا يَقْصُرُ عَادَةً ثُمَّ فَرَّقَ مَا بَيْنَ الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ فِي الصَّوْمِ أَنْ يَسْتَوْعِبَ الشَّهْرَ كُلَّهُ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ فِي حُكْمِ الْأَجَلِ، وَفِي الصَّلَاةِ أَنْ يَزِيدَ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِتَدْخُلَ الْفَوَائِتُ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قُلْنَا لَوْ نَوَى الصَّوْمَ بِاللَّيْلِ ثُمَّ جُنَّ بِالنَّهَارِ جَازَ صَوْمُهُ عَنْ الْفَرْضِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الْجُنُونَ لَا يُنَافِي الْعِبَادَةَ وَلَا صِفَةَ الْفَرْضِيَّةِ فَإِنَّ الْأَهْلِيَّةَ لِلْعِبَادَةِ لِكَوْنِهِ أَهْلًا لِثَوَابِهَا وَرُكْنُ الصَّوْمِ بَعْدَ النِّيَّةِ هُوَ الْإِمْسَاكُ، وَالْجُنُونُ لَا يُنَافِيهِ

(قَالَ): وَإِنْ جُنَّ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ثُمَّ أَفَاقَ بَعْدَ سِنِينَ فِي رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ

الصفحة 88