كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 3)

قَضَاءُ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ لِإِدْرَاكِهِ جُزْءًا مِنْهُ وَقَضَاءُ الشَّهْرِ الْآخَرِ لِإِدْرَاكِهِ جُزْءًا مِنْهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الشُّهُورِ الَّتِي فِي السِّنِينَ الْمَاضِيَةِ بَيْنَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ جُزْءًا مِنْهَا فِي حَالِ الْإِفَاقَةِ فَإِنْ كَانَ جُنُونُهُ أَصْلِيًّا بِأَنْ بَلَغَ مَجْنُونًا ثُمَّ أَفَاقَ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ فَالْمَحْفُوظُ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْخِطَابِ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْآنَ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ حِينَ يَبْلُغُ وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ فِي الْقِيَاسِ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَكِنْ اسْتَحْسَنَ فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءَ مَا مَضَى مِنْ الشَّهْرِ؛ لِأَنَّ الْجُنُونَ الْأَصْلِيَّ لَا يُفَارِقُ الْجُنُونَ الْعَارِضَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَلَيْسَ فِيهِ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَاخْتَلَفَ فِيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى قِيَاسِ مَذْهَبِهِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى

(قَالَ): مَرِيضٌ أَفْطَرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَبْرَأَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ وَقْتَ أَدَاءِ الصَّوْمِ فِي حَقِّهِ عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ بِالنَّصِّ وَلَمْ يُدْرِكْهُ؛ وَلِأَنَّ الْمَرَضَ لَمَّا كَانَ عُذْرًا فِي إسْقَاطِ أَدَاءِ الصَّوْمِ فِي وَقْتِهِ لِدَفْعِ الْحَرَجِ فَلَأَنْ يَكُونَ عُذْرًا فِي إسْقَاطِ الْقَضَاءِ أَوْلَى، وَإِنْ بَرِئَ وَعَاشَ شَهْرًا فَلَمْ يَقْضِ الصَّوْمَ حَتَّى مَاتَ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَتَمَكَّنَ مِنْ قَضَاءِ الصَّوْمِ فَصَارَ الْقَضَاءُ دَيْنًا عَلَيْهِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمَّنْ كَانَ مَرِيضًا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ثُمَّ مَاتَ فَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إنْ كَانَ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُطِيقَ الصَّوْمَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَطَاقَ الصَّوْمَ وَلَمْ يَصُمْ حَتَّى مَاتَ فَلْيُقْضَ عَنْهُ» يَعْنِي بِالْإِطْعَامِ ثُمَّ لَا يَجُوزُ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَصُومَ عَنْهُ وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: إنْ صَحَّ الْحَدِيثُ صَامَ عَنْهُ وَارِثُهُ قَالَ أَبُو حَامِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِمْ: وَقَدْ صَحَّ الْحَدِيثُ وَالْمُرَادُ مِنْهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ مَاتَ، وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ».
(وَلَنَا) حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا «لَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ» ثُمَّ الصَّوْمُ عِبَادَةٌ لَا تَجْرِي النِّيَابَةُ فِي أَدَائِهَا فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ كَالصَّلَاةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي الْعِبَادَةِ كَوْنُهُ شَاقًّا عَلَى بَدَنِهِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِأَدَاءِ نَائِبِهِ وَلَكِنْ يُطْعِمُ عَنْهُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ أَدَاءِ الصَّوْمِ فِي حَقِّهِ فَتَقُومُ الْفِدْيَةُ مَقَامَهُ كَمَا فِي حَقِّ الشَّيْخِ الْفَانِي، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْإِطْعَامُ مِنْ ثُلُثِهِ إذَا أَوْصَى وَلَا يَلْزَمُهُمْ ذَلِكَ إذَا لَمْ يُوصِ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَلْزَمُهُمْ ذَلِكَ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ أَوْصَى أَوْ لَمْ يُوصِ، وَهُوَ نَظِيرُ الْخِلَافِ فِي دَيْنِ الزَّكَاةِ ثُمَّ الْإِطْعَامُ عِنْدَنَا يُقَدَّرُ بِنِصْفِ صَاعٍ لِكُلِّ مِسْكِينٍ وَعِنْدَهُ يُقَدَّرُ بِالْمُدِّ وَأَصْلُ الْخِلَافِ فِي طَعَامِ الْكَفَّارَةِ وَنَحْنُ

الصفحة 89