كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 4)

الْوَجْهِ الَّذِي يَمْلِكُ الْإِنْشَاءَ، وَهَكَذَا نَقُولُ إذَا سَاعَدَهُ شَاهِدَانِ عَلَى ذَلِكَ كَانَ صَحِيحًا اعْتِبَارًا لِلْإِقْرَارِ بِالْإِنْشَاءِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَمَةِ فَإِنَّ الْمَوْلَى هُنَاكَ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ بُضْعَهَا مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى، وَإِقْرَارُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ صَحِيحٌ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا بِالْإِنْشَاءِ، فَأَمَّا فِي حَقِّ الْعَبْدِ الْإِقْرَارُ عَلَيْهِ لَا عَلَى نَفْسِهِ فَلَا يَمْلِكُ إلَّا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي يَمْلِكُ الْإِنْشَاءَ. وَأَصْلُ كَلَامِهِمْ يُشْكَلُ بِإِقْرَارِ الْوَصِيِّ بِالِاسْتِدَانَةِ عَلَى الْيَتِيمِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ صَحِيحًا، وَإِنْ كَانَ هُوَ يَمْلِكُ إنْشَاءَ الِاسْتِدَانَةِ

(قَالَ): وَإِنْ كَانَ لِلصَّغِيرَةِ وَلِيَّانِ فَزَوَّجَهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَجُلًا، فَإِنْ عُلِمَ أَيُّهُمَا أَوَّلُ جَازَ نِكَاحُ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا أَنْكَحَ الْوَلِيَّانِ فَالْأَوَّلُ أَحَقُّ»، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَوَّلَ صَادَفَ عَقْدُهُ مَحَلَّهُ وَعَقْدُ الثَّانِي لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ؛ لِأَنَّهَا بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ صَارَتْ مَشْغُولَةً، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ أَيُّهُمَا أَوَّلُ أَوْ وَقَعَ الْعَقْدَانِ مَعًا بَطَلَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِهِمَا، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَتَعَيَّنَ جِهَةُ الْبُطْلَانِ فِيهِمَا

(قَالَ): وَإِذَا تَزَوَّجَ الصَّغِيرُ امْرَأَةً فَأَجَازَ ذَلِكَ وَلِيَّهُ جَازَ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ الْعَاقِلَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ عِنْدَنَا، وَلَكِنْ يَحْتَاجُ إلَى انْضِمَامِ رَأْيِ الْوَلِيِّ إلَى مُبَاشَرَتِهِ لِيَحْصُلَ تَمَامُ النَّظَرِ فَإِذَا أَجَازَ الْوَلِيُّ جَازَ ذَلِكَ، وَكَانَ ذَلِكَ كَمُبَاشَرَةِ الْوَلِيِّ بِنَفْسِهِ حَتَّى يَثْبُتَ لَهُ الْخِيَارُ إذَا بَلَغَ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَنْفُذُ بِإِجَازَةِ الْوَلِيِّ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ عِبَارَةَ الصَّبِيِّ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي الْعُقُودِ، وَكَذَلِكَ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْعُقُودَ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِجَازَةِ وَعَلَى هَذَا لَوْ زَوَّجَتْ الصَّغِيرَةُ نَفْسَهَا فَأَجَازَ الْوَلِيُّ ذَلِكَ جَازَ عِنْدَنَا، وَلَمْ يَجُزْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ وَمَعْنًى ثَالِثٍ أَنَّ عِبَارَةَ النِّسَاءِ عِنْدَهُ لَا تَصْلُحُ لِعَقْدِ النِّكَاحِ، وَإِنْ كَانَ الْمُجِيزُ غَيْرَ الْأَبِ وَالْجَدِّ فَلِمَعْنًى رَابِعٍ عَلَى قَوْلِهِ أَيْضًا، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْمُجِيزَ لَا يَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ التَّزْوِيجِ، وَإِنْ أَبْطَلَ الْوَلِيُّ عَقْدَهُمَا بَطَلَ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ بِالْإِجَازَةِ، وَلَا بِالْإِبْطَالِ حَتَّى بَلَغَا فَالرَّأْيُ إلَيْهِمَا إنْ أَجَازَا ذَلِكَ الْعَقْدَ جَازَ كَمَا لَوْ أَجَازَ الْوَلِيُّ فِي صِغَرِهِمَا، وَلَا يَنْفُذُ بِمُجَرَّدِ بُلُوغِهِمَا إلَّا أَنْ يُجِيزَ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ عِنْدَ مُبَاشَرَتِهِمَا مَا تَمَّ لِصِغَرِهِمَا وَنُفُوذُ هَذَا الْعَقْدِ يَعْتَمِدُ تَمَامَ النَّظَرِ فَلِهَذَا يَعْتَمِدُ إجَازَتَهُمَا بَعْدَ الْبُلُوغِ

(قَالَ): وَإِذَا زَوَّجَ الْأَبُ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ وَضَمِنَ لَهَا الْمَهْرَ عَنْ زَوْجِهَا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ صَيَّرَ نَفْسَهُ زَعِيمًا وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ مَالَ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ وَضَمِنَ الثَّمَنَ عَنْ الْمُشْتَرِي لَا يَصِحُّ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ حَقِّ قَبْضِ الثَّمَنِ لِلْأَبِ هُنَاكَ بِحُكْمِ الْعَقْدِ لَا بِوِلَايَتِهِ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْدَ بُلُوغِهِ الْأَبُ هُوَ الَّذِي يَقْبِضُ الثَّمَنَ دُونَ الصَّبِيِّ، وَفِيمَا يَكُونُ وُجُوبُهُ بِحُكْمِ عَقْدِهِ فَهُوَ كَالْمُسْتَحَقِّ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ ذَلِكَ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ، وَلِهَذَا لَوْ أَبْرَأَ الْمُشْتَرِيَ عَنْ الثَّمَنِ

الصفحة 226