كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 5)

تَعَالَى {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232].
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَهَذِهِ أَبْيَنُ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَجُوزُ بِغَيْرِ وَلِيٍّ؛ لِأَنَّهُ نَهَى الْوَلِيَّ عَنْ الْمَنْعِ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْمَنْعُ مِنْهُ إذَا كَانَ الْمَمْنُوعُ فِي يَدِهِ وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ وَإِذَا دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا لَا وَكْسَ، وَلَا شَطَطَ فَإِنْ تَشَاجَرَا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ»، وَفِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ»، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كُلُّ نِكَاحٍ لَمْ يَحْضُرْهُ أَرْبَعَةٌ فَهُوَ سِفَاحٌ خَاطِبٌ وَوَلِيٌّ وَشَاهِدَا عَدْلٍ»، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تُنْكِحُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ، وَلَا الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا وَإِنَّمَا الزَّانِيَةُ هِيَ الَّتِي تُنْكِحُ نَفْسَهَا»، وَأَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَانَتْ تَحْضُرُ النِّكَاحَ وَتَخْطُبُ ثُمَّ تَقُولُ اعْقِدُوا فَإِنَّ النِّسَاءَ لَا يَعْقِدْنَ.
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهَا نَاقِصَةٌ بِنُقْصَانِ الْأُنُوثَةِ فَلَا تَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ عَقْدِ النِّكَاحِ لِنَفْسِهَا كَالصَّغِيرَةِ وَالْمَجْنُونَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ عَظِيمٌ خَطَرُهُ كَبِيرٌ، وَمَقَاصِدُهُ شَرِيفَةٌ وَلِهَذَا أَظْهَرَ الشَّرْعُ خَطَرَهُ بِاشْتِرَاطِ الشَّاهِدَيْنِ فِيهِ مِنْ بَيْنَ سَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ فَلِإِظْهَارِ خَطَرِهِ تُجْعَلُ مُبَاشَرَتُهُ مُفَوَّضَةً إلَى أُولِي الرَّأْيِ الْكَامِلِ مِنْ الرِّجَالِ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ نَاقِصَاتُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ فَكَأَنَّ نُقْصَانَ عَقْلِهَا بِصِفَةِ الْأُنُوثَةِ بِمَنْزِلَةِ نُقْصَانِ عَقْلِهَا بِصِفَةِ الصِّغَرِ وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إنَّ عَقْدَهَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ كَمَا أَنَّ عَقْدَ الصَّغِيرَةِ الَّتِي تَعْقِلُ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ بِعِبَارَتِهَا أَصْلًا كَمَا لَا يَنْعَقِدُ التَّصَرُّفُ بِعِبَارَةِ الصَّغِيرَةِ عِنْدَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ ثُبُوتُ حَقِّ الِاعْتِرَاضِ لِلْأَوْلِيَاءِ إذَا وَضَعَتْ نَفْسَهَا فِي غَيْرِ كُفْءٍ، وَلَوْ ثَبَتَتْ لَهَا وِلَايَةُ الِاسْتِبْدَادِ بِالْمُبَاشَرَةِ لَمْ يَثْبُتْ لِلْأَوْلِيَاءِ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ كَالرَّجُلِ، وَكَذَلِكَ تَمْلِكُ مُطَالَبَةَ الْوَلِيِّ بِالتَّزْوِيجِ، وَلَوْ كَانَتْ مَالِكَةً لِلْعَقْدِ عَلَى نَفْسِهَا لَمَا كَانَ لَهَا أَنْ تُطَالِبَ الْوَلِيَّ بِهِ.
، وَالدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِ نُقْصَانِ عَقْلِهَا أَنَّهُ لَمْ يُجْعَلْ إلَيْهَا مِنْ جَانِبِ رَفْعِ الْعَقْدِ شَيْءٌ بَلْ الزَّوْجُ هُوَ الَّذِي يَسْتَبِدُّ بِالطَّلَاقِ، وَأَمَّا مَنْ جَوَّزَ النِّكَاحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 234]، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] أَضَافَ الْعَقْدَ إلَيْهِنَّ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ فَدَلَّ أَنَّهَا تَمْلِكُ الْمُبَاشَرَةَ، وَالْمُرَادُ بِالْعَضْلِ الْمَنْعُ حَبْسًا بِأَنْ يَحْبِسَهَا فِي بَيْتٍ وَيَمْنَعَهَا مِنْ أَنْ تَتَزَوَّجَ، وَهَذَا خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: {وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ} [البقرة: 231]

الصفحة 11