كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 5)

النِّكَاحِ عِنْدَهُ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ حَتَّى قَالَ فِي شَاهِدَيْ الطَّلَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ إذَا رَجَعَا ضَمِنَا مَهْرَ الْمِثْلِ، وَهَذَا لِأَنَّ مِلْكَ الْبُضْعِ يَتَقَوَّمُ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ خُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: إنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمِلْكِ عَيْنٍ، وَلَا مَنْفَعَةٍ إنَّمَا هُوَ مِلْكٌ ضَرُورِيٌّ لَا يَظْهَرُ إلَّا فِي حَقِّ الِاسْتِيفَاءِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ النَّقْلِ إلَى الْغَيْرِ وَالِانْتِقَالِ إلَى الْوَرَثَةِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ التَّقَوُّمِ بِالْمَالِ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فِي نَفْسِهِ، فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْإِتْلَافِ مُقَدَّرٌ بِالْمِثْلِ بِالنَّصِّ، وَتَقَوُّمُ الْبُضْعِ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ لِلضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّهُ تَمَلُّكٌ لِلْبُضْعِ وَهُوَ مُحْتَرَمٌ، فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِعِوَضٍ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ لَا تُوجَدُ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ مِلْكِهِ؛ لِأَنَّهُ إبْطَالٌ لِلْمِلْكِ لَا تَمْلِيكٌ مِنْهَا، وَإِبْطَالُ الْمِلْكِ لَا يَسْتَدْعِي التَّقَوُّمَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ أَنَّ الْأَبَ يُزَوِّجُ ابْنَهُ الصَّغِيرَ بِمَالِ الصَّغِيرِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْلَعَ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ بِمَالِهَا، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِهِ لَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ عَلَيْهَا بِإِتْلَافِ الْبُضْعِ، وَلَكِنَّهَا قَرَّرَتْ عَلَيْهِ مَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ، فَإِنَّ الصَّدَاقَ وَإِنْ وَجَبَ بِالْعَقْدِ فَهُوَ بِعَرْضِ السُّقُوطِ مَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا إذَا جَاءَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا فَهِيَ قَرَّرَتْ النِّصْفَ عَلَيْهِ بِمَا فَعَلَتْهُ وَهِيَ مُتَسَبِّبَةٌ فِي ذَلِكَ مُتَعَدِّيَةٌ إذَا تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ فَلِهَذَا رَجَعَ عَلَيْهَا بِذَلِكَ.

(قَالَ:) وَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الصَّبِيَّةَ ثُمَّ تَزَوَّجَ عَمَّتَهَا فَنِكَاحُ الْعَمَّةِ بَاطِلٌ لِلنَّهْيِ، فَإِنْ أَرْضَعَتْ أُمُّ الْعَمَّةِ الصَّبِيَّةَ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّةَ وَإِنْ صَارَتْ أُخْتًا لِلْعَمَّةِ بِالرَّضَاعَةِ، وَلَكِنْ لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُ الْعَمَّةِ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْجَمْعُ الْحَرَامُ فَلِهَذَا بَقِيَ نِكَاحُ الصَّبِيَّةِ.

(قَالَ:) وَإِذَا تَزَوَّجَ صَبِيَّتَيْنِ رَضِيعَتَيْنِ فَأَرْضَعَتْهُمَا امْرَأَةٌ مَعًا أَوْ إحْدَاهُمَا بَعْدَ الْأُخْرَى بَانَتَا جَمِيعًا لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُخْتَيْنِ حِينَ أَرْضَعَتْ الثَّانِيَةَ مِنْهُمَا فَتَقَرَّرَ الْجَمْعُ الْمُنَافِي، وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِبُطْلَانِ نِكَاحِهَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى، فَإِذَا بَانَتَا فَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الصَّدَاقِ يَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى الْمُرْضِعَةِ إنْ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ كُنَّ ثَلَاثًا فَأَرْضَعَتْهُنَّ مَعًا بِأَنْ حَلَبَتْ لَبَنَهَا فِي قَارُورَةٍ وَأَلْقَمَتْ إحْدَى ثَدْيَيْهَا إحْدَاهُنَّ وَالْأُخْرَى لِلْأُخْرَى، وَأَوْجَرَتْ الثَّلَاثَةَ مَعًا بِنَّ جَمِيعًا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُنَّ صِرْنَ أَخَوَاتٍ مَعًا، وَإِنْ أَرْضَعَتْهُنَّ وَاحِدَةً بَعْدَ الْأُخْرَى بَانَتْ الْأُولَيَانِ وَالثَّالِثَةُ امْرَأَتُهُ؛ لِأَنَّهَا حِينَ أَرْضَعَتْ الثَّانِيَةَ فَقَدْ تَحَقَّقَتْ الْأُخْتِيَّةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأُولَى فَتَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا، ثُمَّ أَرْضَعَتْ الثَّالِثَةَ، وَلَيْسَ فِي نِكَاحِهِ غَيْرُهَا فَفِي نِكَاحِهَا، وَإِنْ كُنَّ أَرْبَعًا فَأَرْضَعَتْهُنَّ مَعًا أَوْ وَاحِدَةً ثُمَّ الثَّلَاثَ مَعًا بِنَّ جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ إنْ أَرْضَعَتْهُنَّ جَمِيعًا وَاحِدَةً بَعْدَ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَرْضَعَتْ الثَّانِيَةَ بَانَتْ الْأُولَيَانِ لِلْأُخْتِيَّةِ وَحِينَ أَرْضَعَتْ الثَّالِثَةَ وَالرَّابِعَةَ بَانَتْ الْأُخْرَيَانِ أَيْضًا

الصفحة 142