كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 5)

إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْوَطْءِ بِالنِّكَاحِ لِاعْتِبَارِ مَعْنَى كَمَالِ النِّعْمَةِ، وَالْعَبْدُ وَالْكَافِرُ فِي هَذَا لَيْسَ نَظِيرَ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ.

وَعَلَى هَذَا دُخُولُ الصَّبِيِّ الَّذِي يُجَامِعُ مِثْلُهُ بِالْمَرْأَةِ يُحِلُّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُحِلُّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحِلِّ لِلْأَوَّلِ يَسْتَدْعِي كَمَالَ الْفِعْلِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِالْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، وَفِعْلُ الصَّبِيِّ دُونَ فِعْلِ الْبَالِغِ فَلِانْعِدَامِ صِفَةِ الْكَمَالِ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْحِلُّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وَاسْمُ الزَّوْجِ يَتَنَاوَلُ الصَّبِيَّ كَمَا يَتَنَاوَلُ الْبَالِغَ ثُمَّ هَذَا حُكْمٌ مُخْتَصٌّ بِالْوَطْءِ بِالنِّكَاحِ فَيَتَعَلَّقُ بِوَطْءِ الصَّبِيِّ كَتَقْرِيرِ الْمُسَمَّى وَالْعِدَّةِ وَمَا هُوَ الْمَعْنَى فِيهِ وَهُوَ مُغَايَظَةُ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ حَاصِلٌ أَيْضًا، فَإِنْ اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا حَتَّى تَذُوقِي مِنْ عُسَيْلَتِهِ» قُلْنَا: لَيْسَ الْمُرَادُ بِذَوْقِ الْعُسَيْلَةِ الْإِنْزَالَ بَلْ هِيَ اللَّذَّةُ، وَهِيَ تَنَالُ ذَلِكَ بِوَطْءِ الصَّبِيِّ الَّذِي يُجَامِعُ، وَلِهَذَا يَلْزَمُهَا الِاغْتِسَالُ بِنَفْسِ الْإِيلَاجِ وَبِهِ يَتَبَيَّنُ كَمَالُ فِعْلِ الصَّبِيِّ فِي الْوَطْءِ.

(قَالَ:) وَكَذَلِكَ فِعْلُ هَؤُلَاءِ يُوجِبُ مِنْ التَّحْرِيمِ مَا يُوجِبُهُ جِمَاعُ الْبَالِغِ الْمُحْصَنِ حَتَّى إنَّ الصَّبِيَّ الَّذِي يُجَامِعُ مِثْلُهُ يَتَعَلَّقُ بِوَطْئِهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ، وَكَذَا الصَّبِيَّةُ الَّتِي يُجَامَعُ مِثْلُهَا ثَبَتَ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ بِوَطْئِهَا، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُونَ فِيمَا إذَا وَطِئَ صَغِيرَةً لَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَثْبُتُ لِوُجُودِ فِعْلِ الْوَطْءِ حَقِيقَةً وَهُوَ كَامِلٌ فِي نَفْسِهِ حَتَّى يَتَعَلَّقَ بِهِ الِاغْتِسَالُ بِالْإِيلَاجِ مِنْ غَيْرِ إنْزَالٍ، وَيَثْبُتَ بِهِ سَائِرُ أَحْكَامِ الْوَطْءِ أَيْضًا، وَاعْتُبِرَ الْوَطْءُ بِالْعَقْدِ، فَكَمَا أَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الصَّغِيرَةِ كَالْعَقْدِ عَلَى الْبَالِغَةِ فِي إيجَابِ الْحُرْمَةِ، فَكَذَلِكَ الْوَاطِئُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّه تَعَالَى - قَالَا: ثُبُوتُ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ لَيْسَ لِعَيْنِ الْوَطْءِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِالْوَطْءِ فِي غَيْرِ الْمَأْتَى، وَلَكِنَّ ثُبُوتَهُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْبَعْضِيَّةِ، وَلَا تَصَوُّرَ لِذَلِكَ إذَا كَانَتْ لَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ يُجَامَعُ مِثْلُهَا؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْبَعْضِيَّةِ وَإِنْ كَانَتْ بِاعْتِبَارِ الْمَاءِ فَهُوَ بَاطِنٌ لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ فَيُقَامُ السَّبَبُ الظَّاهِرُ مُقَامَهُ، وَهُوَ بُلُوغُهَا حَدَّ الشَّهْوَةِ، فَإِذَا كَانَتْ مِمَّنْ يُشْتَهَى أُنْزِلَتْ مَنْزِلَةَ الْبَالِغَةِ فِي ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ بِوَطْئِهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ لَا تُشْتَهَى. أَلَا تَرَى أَنَّ إبَاحَةَ هَذَا الْفِعْلِ شَرْعًا لِمَقْصُودِ النَّسْلِ ثُمَّ جَعَلَ بُلُوغَهَا حَدَّ الشَّهْوَةِ فِي حُكْمِ إبَاحَةِ هَذَا الْفِعْلِ قَائِمًا مَقَامَ حَقِيقَةِ الْبُلُوغِ، فَكَذَلِكَ هُنَا، بِخِلَافِ وُجُوبِ الِاغْتِسَالِ، فَإِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِاسْتِطْلَاقِ وِكَاءِ الْمَنِيِّ بِمَعْنَى الْحَرَارَةِ وَاللِّينِ فِي الْمَحَلِّ، فَلِهَذَا يَسْتَوِي فِيهِ الَّتِي يُجَامَعُ مِثْلُهَا وَاَلَّتِي لَا يُجَامَعُ، كَمَا يَسْتَوِي فِيهِ الْفِعْلُ فِي الْمَأْتَى وَغَيْرِ الْمَأْتَى. .

(قَالَ:) وَالْخَلْوَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ الْبَالِغَيْنِ

الصفحة 148