كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 5)

أُخْتَيْنِ، وَلِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي الِاسْتِفْرَاشِ الْحَقِيقِيِّ حَرَامٌ وَقَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُ اسْتِفْرَاشُ الْأُولَى، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَسْتَفْرِشَ الثَّانِيَةَ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ حُكْمُ ذَلِكَ الِاسْتِفْرَاشِ، وَانْقِطَاعُهُ بِالتَّزْوِيجِ أَوْ الْبَيْعِ فِي مَحَلِّ الْبَيْعِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَطِئَ أَمَتَهُ، وَلَا مُدَبَّرَتَهُ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَطَأَ امْرَأَتَهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَطَأَ الْأَمَةَ وَالْمُدَبَّرَةَ بَعْدَ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْمَنْكُوحَةَ بِالْعَقْدِ صَارَتْ فِرَاشًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَفْرِشَ الْأَمَةَ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَهُ أَنْ يَطَأَ الْمَنْكُوحَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا فِرَاشَ لَهُ عَلَى الْمَمْلُوكَةِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا.
(قَالَ:) وَلَوْ زَوَّجَ أُمَّ وَلَدِهِ ثُمَّ وَطِئَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ مَاتَ زَوْجُ أُمِّ الْوَلَدِ أَوْ فَارَقَهَا فَلَهُ أَنْ يَطَأَ امْرَأَتَهُ مَادَامَ أُمُّ وَلَدِهِ تَعْتَدُّ مِنْ زَوْجِهَا؛ لِأَنَّ فَرْجَهَا حَرَامٌ عَلَيْهِ فِي حَالِ عِدَّتِهَا كَمَا هُوَ حَرَامٌ عَلَيْهِ فِي حَالِ نِكَاحِهَا، فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَطَأَ امْرَأَتَهُ حَتَّى يَمْلِكَ فَرْجَ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ ارْتَفَعَ بِآثَارِهِ فَعَادَ الْحُكْمُ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ، وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ وَالْمُدَبَّرَةُ إذَا كَانَ وَطِئَهَا قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْأُخْتَ فَحُكْمُهُمَا وَحُكْمُ أُمِّ الْوَلَدِ سَوَاءٌ.
(قَالَ:) فَإِنْ أَعْتَقَ أُمَّ وَلَدِهِ فَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهَا حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ، وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَمَذْهَبُهُ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَيَسْتَوِي إنْ أَعْتَقَهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا إلَّا عَلَى قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَا تَلْبِسُوا عَلَيْنَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ إذَا مَاتَ عَنْهَا سَيِّدُهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَهَذَا دَلِيلُنَا فَإِنَّهُ أَلْزَمَهَا عِدَّةَ الْحَرَائِرِ إلَّا أَنَّا نُوجِبُ الْحَيْضَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعِدَّةَ لَا تَجِبُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الدُّخُولِ وَتَوَهُّمِ اشْتِغَالِ الرَّحِمِ فَيُقَدَّرُ بِالْحَيْضِ فِي الْحَيَاةِ وَالْوَفَاةِ كَالْعِدَّةِ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ وَوَطْءِ شُبْهَةٍ، احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ: عِدَّتُهَا أَثَرُ مِلْكِ الْيَمِينِ فَتُقَدَّرُ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ كَالِاسْتِبْرَاءِ، وَدَلِيلُ صِحَّةِ اعْتِبَارِهِ بِالِاسْتِبْرَاءِ أَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ بِالْحَيَاةِ وَالْوَفَاةِ، وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ تَبَيُّنُ فَرَاغِ الرَّحِمِ لَا غَيْرُ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْقُرْءِ الْوَاحِدِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: هَذِهِ عِدَّةٌ وَجَبَتْ عَلَى حُرَّةٍ، فَلَا يَكْتَفِي فِيهَا بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ كَعِدَّةِ النِّكَاحِ بَلْ أَوْلَى، فَإِنْ عِدَّةَ النِّكَاحِ قَدْ تَجِبُ عَلَى الْأَمَةِ، وَهَذِهِ الْعِدَّةُ لَا يَجِبُ إلَّا عَلَى الْحُرَّةِ، وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ الْحُرَّةَ كَامِلَةُ الْحَالِ فَالْوَظِيفَةُ الَّتِي لَا تَجِبُ إلَّا عَلَى الْحُرَّةِ تَجِبُ بِصِفَةِ الْكَمَالِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَالُ وُجُوبِ الْعِدَّةِ لَا مَا كَانَ قَبْلَهُ وَبِهِ يَتَبَيَّنُ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِبْرَاءِ، فَإِنَّ الِاسْتِبْرَاءَ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا وَلَكِنْ عَلَى الْمَوْلَى أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلَا لَا تُوطَأُ الْحَبَالَى حَتَّى يَضَعْنَ، وَلَا الْحَيَالَى حَتَّى يَسْتَبْرِئْنَ بِحَيْضَةٍ».
وَهَذَا خِطَابٌ لِلْمَوْلَى دُونَ الْأَمَةِ، فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ لَا تَضْرِبْ فُلَانًا خِطَابٌ لِلضَّارِبِ دُونَ الْمَضْرُوبِ تَوْضِيحُهُ

الصفحة 174