كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 6)

ثُمَّ الْهَزْلُ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ، فَكَذَلِكَ الْإِكْرَاهُ وَلِلْمُكْرَهِ اخْتِيَارٌ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ عَرَفَ الشَّرَّيْنِ فَاخْتَارَ أَهْوَنَهُمَا، وَهَذَا دَلِيلُ صِحَّةِ اخْتِيَارِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِصِحَّةِ رِدَّتِهِ؛ لِأَنَّهَا تَنْبَنِي عَلَى الِاعْتِقَادِ، وَهُوَ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ، وَفِيمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ اعْتِقَادِهِ مُكْرَهٌ، فَذَلِكَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ بِخِلَافِ الْهَازِلِ، فَإِنَّهُ مُسْتَخِفٌّ بِالدِّينِ، وَالِاسْتِخْفَافُ بِالدِّينِ كُفْرٌ، وَبِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالطَّلَاقِ، فَإِنَّهُ خَبَرٌ مُتَمَثِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ، وَالْكَذِبِ، وَقِيَامُ السَّبَبِ عَلَى رَأْسِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَاذِبٌ، وَالْمَخْبَرُ بِهِ إذَا كَانَ كَذِبًا؛ فَالْإِخْبَارُ عَنْهُ لَا يَصِيرُ صِدْقًا وَلَا مَعْنَى لِجَعْلِ الْمُكْرَهِ آلَةً لِلْمُكْرِهِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُجْعَلُ بِالْإِكْرَاهِ آلَةً فِيمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ آلَةً لِغَيْرِهِ دُونَ مَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، وَفِي التَّكَلُّمِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لِغَيْرِهِ؛ إذْ لَا يَتَحَقَّقُ تَكَلُّمُ الْمَرْءِ بِلِسَانِ غَيْرِهِ فَبَقِيَ مَقْصُورًا عَلَيْهِ، وَلَكِنْ فِي حُكْمِ الْإِتْلَافِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لِغَيْرِهِ؛ فَلِهَذَا كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُكْرَهِ مَعَ أَنَّ الْخِلَافَ ثَابِتٌ فِي الْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْإِكْرَاهِ لَا يَجْعَلُ الْمُكْرَهَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ رَفْعُ الْإِثْمِ عَنْ الْمُكْرَهِ لَا رَفْعُ الْعَيْنِ، وَالْحُكْمِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أُكْرِهَ أَنْ يُجَامِعَ أُمَّ امْرَأَتِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ، وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ بِذَلِكَ. .

(قَالَ): وَخُلْعُ الصَّبِيِّ وَطَلَاقُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ قَصْدٌ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا خُصُوصًا فِيمَا يَضُرُّهُ، وَهَذَا؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ اعْتِبَارَ الْقَصْدِ يَنْبَنِي عَلَى الْخِطَابِ، وَالْخِطَابُ يَنْبَنِي عَلَى اعْتِدَالِ الْحَالِ، وَكَذَلِكَ فِعْلُ أَبِيهِ عَلَيْهِ فِي الطَّلَاقِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ عَلَى الصَّبِيِّ؛ لِمَعْنَى النَّظَرِ لَهُ؛ وَلِتَحَقُّقِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ.

(قَالَ): وَالْمَعْتُوهُ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ مِنْ مَرَضٍ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ فِي ذَلِكَ؛ لِانْعِدَامِ الْقَصْدِ الصَّحِيحِ مِنْهُمَا.

(قَالَ): وَإِذَا اخْتَلَعَتْ الصَّبِيَّةُ مِنْ زَوْجِهَا الْكَبِيرِ فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مِنْ أَهْلِ الْإِيقَاعِ وَإِيجَابُ الْخُلْعِ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِشَرْطِ قَبُولِهَا، وَقَدْ تَحَقَّقَ الْقَبُولُ مِنْهَا فَيَقَعُ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: إنْ تَكَلَّمْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَتَكَلَّمَتْ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُهَا الْمَالُ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ الْمَالِ مِنْ الصَّبِيَّةِ لَا يَصِحُّ خُصُوصًا فِيمَا لَا مَنْفَعَةَ لَهَا فِيهِ كَالِالْتِزَامِ بِالْإِقْرَارِ، وَالْكَفَالَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ يَعْتَمِدُ الْقَبُولَ لَا وُجُودَ الْمَقْبُولِ، وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ إذَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ عَلَيْهَا، وَلَا تُؤَاخَذُ بِالْمَالِ إلَّا بَعْدَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهَا مُخَاطَبَةٌ يَصِحُّ الْتِزَامُهَا فِي حَقِّ نَفْسِهَا دُونَ الْمَوْلَى فَتُؤَاخَذُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ كَمَا لَوْ الْتَزَمَتْ بِالْإِقْرَارِ، وَالْكَفَالَةِ، وَإِنْ فَعَلَتْهُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى سَعَتْ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَهَا الْمَالَ بِإِذْنِ الْمَوْلَى صَحِيحٌ فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَتُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ، وَالْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ كَالْأَمَةِ إلَّا أَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ الْبَيْعَ فَتُؤَدِّي الْبَدَلَ مِنْ كَسْبِهَا إذَا الْتَزَمَتْ بِإِذْنِ

الصفحة 178