كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 6)

أَنَّ لِلْمُخَيَّرَةِ الْخِيَارَ مَادَامَ فِي مَجْلِسِهَا فَكَذَلِكَ يَثْبُتُ هَذَا الْحُكْمُ فِيمَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ وَهُوَ الْمَشِيئَةُ وَهَذَا لِأَنَّ الرَّأْيَ الَّذِي يُوجِبُهُ الزَّوْجُ لَهَا مُعْتَبَرٌ بِمَا يَثْبُتُ لَهَا مِنْ الْخِيَارِ شَرْعًا وَهُوَ خِيَارُ الْمُعْتَقَةِ وَذَلِكَ يَتَوَقَّتُ بِمَجْلِسِهَا غَيْرَ أَنَّهَا إنْ شَاءَتْ هُنَا فَهِيَ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً لِأَنَّ الْوُقُوعَ بِلَفْظِ الزَّوْجِ وَقَدْ أَتَى بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ وَإِنْ قَامَتْ قَبْلَ أَنْ تَشَاءَ فَهِيَ امْرَأَتُهُ وَلَا مَشِيئَةَ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ لِانْقِطَاعِ مَجْلِسِهَا بِالْقِيَامِ أَوْ لِوُجُودِ دَلِيلِ الْإِعْرَاضِ عَمَّا فَوَّضَ إلَيْهَا مِنْ الْمَشِيئَةِ وَكَذَلِكَ إنْ أَخَذَتْ فِي عَمَلٍ آخَرَ يُعْرَفُ أَنَّهُ قَطْعٌ لِمَا كَانَا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ الطَّلَاقِ لِأَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنْ الْمَشِيئَةِ يَتَحَقَّقُ بِاشْتِغَالِهَا بِعَمَلٍ آخَرَ كَمَا يَتَحَقَّقُ بِقِيَامِهَا، وَقِيَامُ الزَّوْجِ مِنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ لَا يُبْطِلُ مَشِيئَتَهَا؛ لِأَنَّ قِيَامَهُ دَلِيلُ الرُّجُوعِ فَيَكُونُ كَصَرِيحِ الرُّجُوعِ وَلَوْ رَجَعَ عَمَّا قَالَ كَانَ رُجُوعُهُ بَاطِلًا بِخِلَافِ قِيَامِهَا فَإِنَّهُ دَلِيلُ الرَّدِّ وَلَوْ رَدَّتْ الْمَشِيئَةَ صَحَّ مِنْهَا وَبِهِ فَارَقَ الْبَيْعَ فَإِنَّ الْمُوجِبَ لَوْ قَامَ عَنْ الْمَجْلِسِ قَبْلَ قَبُولِ الْآخَرِ يَبْطُلُ إيجَابُهُ فَكَذَلِكَ يَبْطُلُ بِقِيَامِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ إنْ أَحْبَبْت أَوْ هَوَيْت أَوْ رَضِيت أَوْ أَرَدْت فَأَنْتِ طَالِقٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ فِي الْمَعْنَى تَتَقَارَبُ فَإِنَّهُ تَعْلِيقٌ لِلْوُقُوعِ بِاخْتِيَارِهَا وَلِأَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِي لَا تُفَارِقُهَا كَمَشِيئَتِهَا فَيَتَحَقَّقُ مِنْهَا فِي الْمَجْلِسِ وَلَوْ قَالَ طَلِّقِي نَفْسَك إنْ شِئْت أَوْ أَحْبَبْت أَوْ هَوَيْت أَوْ رَضِيت أَوْ أَرَدْت فَهُوَ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّ هُنَا مَا لَمْ تَقُلْ طَلَّقْت نَفْسِي لَا يَقَعُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ طَلِّقِي نَفْسَك تَمْلِيكُ الْأَمْرِ مِنْهَا وَقَدْ عَلَّقَهُ بِالْمَشِيئَةِ فَإِذَا قَالَتْ شِئْت صَارَ الْأَمْرُ فِي يَدِهَا لِوُجُودِ الشَّرْطِ فَلَا يَقَعُ مَا لَمْ تُوقِعْ، وَهُنَاكَ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ إيقَاعٌ وَقَدْ عَلَّقَهُ بِالْمَشِيئَةِ فَإِذَا قَالَتْ شِئْت يَتَنَجَّزُ.
وَإِنْ قَالَ إنْ كُنْت تُحِبِّينَنِي أَوْ تَبْغُضِينَنِي فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي لَا يَطَّلِعُ عَلَى مَا فِي قَبْلِهَا غَيْرُهَا فَذَلِكَ إلَيْهَا فِي الْمَجْلِسِ وَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُهَا اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا إذَا أَنْكَرَهُ الزَّوْجُ؛ لِأَنَّهَا تَدَّعِي شَرْطَ الطَّلَاقِ وَذَلِكَ مِنْهَا كَدَعْوَى نَفْسِ الطَّلَاقِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ لَا طَرِيقَ لَنَا إلَى مَعْرِفَةِ هَذَا الشَّرْطِ إلَّا مِنْ جِهَتِهَا فَلَا بُدَّ مِنْ قَبُولِ قَوْلِهَا فِيهِ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ بِحَسَبِ الْمُمَكِّنِ فِي كُلِّ فَصْلٍ وَلَمَّا عَلَّقَ الزَّوْجُ الطَّلَاقَ بِمَا فِي قَلْبِهَا مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ إلَّا بِقَوْلِهَا صَارَ الطَّلَاقُ مُعَلَّقًا بِإِخْبَارِهَا فَكَأَنَّهُ قَالَ إنْ أَخْبَرْتنِي أَنَّك تُحِبِّينَنِي وَقَدْ أَخْبَرَتْ بِذَلِكَ فَإِنَّمَا أَقَمْنَا نَفْسَ الْخَبَرِ مُقَامَ حَقِيقَةِ مَا فِي قَلْبِهَا لِلتَّيْسِيرِ اسْتِحْسَانًا لِهَذَا وَإِنَّمَا تَوَقَّتَ بِالْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ إخْبَارَهَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَجْلِسِ كَمَشِيئَتِهَا وَاخْتِيَارِهَا وَلَوْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ مَشِيئَةً فَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَشِيئَةِ لَهَا ذَلِكَ مَادَامَ فِي الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ لِلْإِيقَاعِ مِنْهَا.
وَجَوَابُ التَّمْلِيكِ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ بِخِلَافِ مَا لَوْ

الصفحة 197