كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 6)

أَبَنْت نَفْسِي أَيْ طَلَّقْت نَفْسِي تَطْلِيقَةً بَائِنَةً وَأَصْلُ الطَّلَاقِ إنَّمَا يَقَعُ بِقَوْلِهَا طَلَّقْت نَفْسِي لَا بِذِكْرِ صِفَةِ الْبَيْنُونَةِ وَهِيَ فِي ذَلِكَ مُمْتَثِلَةٌ أَمْرُهُ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ غَيْرُ الْوَاحِدَةِ وَلَكِنَّ مِنْ ضَرُورَةِ صَيْرُورَةِ الْأَمْرِ فِي يَدِهَا فِي الثَّلَاثِ وُقُوعُ الْوَاحِدَةِ بِإِيقَاعِهَا فَإِنَّهَا بَعْضُ مَا صَارَ مَمْلُوكًا لَهَا فَإِنَّمَا يَنْفُذُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا تَصَرَّفَتْ فِيمَا مَلَكَتْ وَهُنَا إنَّمَا صَارَتْ الْوَاحِدَةُ فِي يَدِهَا وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ صَيْرُورَةُ الثَّلَاثِ فِي يَدِهَا فَهِيَ فِي إيقَاعِ الثَّلَاثِ غَيْرُ مُتَصَرِّفَةٍ فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا مُمْتَثِلَةٍ أَمْرَهُ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْمُخَاطَبَ مَتَى زَادَ عَلَى حَرْفِ الْجَوَابِ كَانَ مُبْتَدِئًا كَمَا لَوْ قَالَ تَعَالَ تَغَدَّ مَعِي فَقَالَ إنْ تَغَدَّيْت الْيَوْمَ فَعَبْدُهُ كَذَا كَانَ مُبْتَدِئًا حَتَّى لَوْ رَجَعَ إلَى بَيْتِهِ فَتَغَدَّى حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ زَادَ عَلَى حَرْفِ الْجَوَابِ وَمَتَى نَقَصَ لَا يَكُونُ مُبْتَدِئًا وَالْمُخَاطَبَةُ بِالْوَاحِدَةِ إذَا أَوْقَعَتْ الثَّلَاثَ فَقَدْ زَادَتْ عَلَى حَرْفِ الْجَوَابِ وَالْمُخَاطَبَةُ بِالثَّلَاثِ إذَا أَوْقَعَتْ الْوَاحِدَةَ لَمْ تَزِدْ عَلَى حَرْفِ الْجَوَابِ فَلِهَذَا افْتَرَقَا، يُقَرِّرُهُ أَنَّهُ إذَا فَوَّضَ الثَّلَاثَ إلَيْهَا فَأَوْقَعَتْ وَاحِدَةً فَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى إيقَاعِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ فِي الْمَجْلِسِ وَلَوْ فَعَلَتْ كَانَتْ مُمْتَثِلَةً لَا مَحَالَةَ فَبِتَرْكِهَا إيقَاعَ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ لَا تَخْرُجُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُمْتَثِلَةً فِي الْأُولَى بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْقَعَتْ الثَّلَاثَ وَقَدْ أَمَرَهَا بِالْوَاحِدَةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا تَقْدِرُ عَلَى الِامْتِثَالِ بَعْدَ هَذَا لِاشْتِغَالِهَا بِغَيْرِ مَا أَمَرَهَا بِهِ.

(قَالَ) وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ شِئْت فَقَالَتْ قَدْ شِئْت وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ فَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ إنْ شِئْت أَيْ إنْ شِئْت الثَّلَاثَ فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ غَيْرُ مَفْهُومِ الْمَعْنَى بِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُجْعَلَ بِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ وَإِذَا جَعَلْنَاهُ بِنَاءً يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ جَعَلَ الشَّرْطَ مَشِيئَتَهَا الثَّلَاثَ فَلَا يَتِمُّ الشَّرْطُ بِمَشِيئَتِهَا الْوَاحِدَةَ وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً إنْ شِئْت فَقَالَتْ شِئْت اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ مَشِيئَتُهَا الْوَاحِدَةَ فَإِنَّ الثَّلَاثَةَ غَيْرُ الْوَاحِدَةِ وَعِنْدَهُمَا تَقَعُ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهَا قَدْ شَاءَتْ الْوَاحِدَةَ وَزِيَادَةً وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الْفَصْلِ الْأَوَّلِ.

(قَالَ) وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ شِئْت فَقَالَتْ قَدْ شِئْت وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَقَعَ عَلَيْهَا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا؛ لِأَنَّ تَمَامَ الشَّرْطِ بِآخِرِ كَلَامِهَا فَمَا لَمْ يَتِمَّ الشَّرْطُ لَا يَنْزِلُ الْجَزَاءُ فَلِهَذَا وَقَعَ الثَّلَاثُ عِنْدَ تَمَامِ الشَّرْطِ جُمْلَةً سَوَاء دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَلِأَنَّ الْكَلَامَ الْمَعْطُوفَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضِ يَتَوَقَّفُ أَوَّلُهُ عَلَى آخِرِهِ، وَبِآخِرِهِ تَتَحَقَّقُ مِنْهَا مَشِيئَةُ الثَّلَاثِ فَكَأَنَّهَا قَالَتْ شِئْت ثَلَاثًا وَلَوْ قَالَتْ شِئْت وَاحِدَةً وَسَكَتَتْ ثُمَّ قَالَتْ شِئْت وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءُ؛ لِأَنَّ كَلَامَهَا تَفَرَّقَ بِسُكُوتِهَا وَهِيَ

الصفحة 199