كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 6)

فِي الْمَشِيئَةِ وَإِنْ قَالَ أَحِبِّي الطَّلَاقَ أَوْ أَرِيدِي الطَّلَاقَ أَوْ اهْوَيْ الطَّلَاقَ فَقَالَتْ قَدْ فَعَلْت كَانَ بَاطِلًا وَإِنْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ؛ لِأَنَّ الْإِرَادَةَ وَالْمَحَبَّةَ وَالْهَوَى مِنْ الْعِبَادِ نَوْعُ تَمَنٍّ فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهَا تَمَنِّي الطَّلَاقَ فَقَالَتْ قَدْ تَمَنَّيْت لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ وَفِي الْكِتَابِ أَشَارَ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ شَائِي؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ شَائِي الطَّلَاقَ وَاجِبَةٌ فَيَكُونُ مُمَلَّكًا مِنْهَا وَأَحِبِّي وَأَرِيدِي وَاهْوَيْ لَمْ يُمَلِّكْهَا فِيهِ شَيْئًا وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْمَشِيئَةَ فِي صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ أَلْزَمُ فِي اللُّغَةِ مِنْ الْإِرَادَةِ وَالْهَوَى وَالْمَحَبَّةِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَشِيئَةَ لَا تُذْكَرُ مُضَافَةً إلَى غَيْرِ الْعُقَلَاءِ وَقَدْ تُذْكَرُ الْإِرَادَةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف: 77] وَلَيْسَ إلَى الْجِدَارِ مِنْ الْإِرَادَةِ شَيْءٌ، تَوْضِيحُ الْفَرْقِ أَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الْمُوقِعُ وَلِهَذَا شُرِطَ نِيَّةُ الْإِيقَاعِ مِنْهُ وَلَفْظُ الْمَشِيئَةِ يَمْلِكُ الزَّوْجُ الْإِيقَاعَ بِهِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا شِئْتُ طَلَاقَك بِنِيَّةِ الْإِيقَاعِ يَقَعُ فَكَذَلِكَ إذَا فَوَّضَ إلَيْهَا يَكُونُ مُمَلَّكًا مِنْهَا مَا كَانَ لَهُ فَأَمَّا لَفْظُ الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْهَوَى لَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ الْإِيقَاعَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ أَحْبَبْت طَلَاقَك أَوْ هَوَيْت طَلَاقَك أَوْ أَرَدْت طَلَاقَك لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ وَإِنْ نَوَى فَكَذَلِكَ لَا يَصِيرُ مُمَلَّكًا مِنْهَا بِهَذَا اللَّفْظِ شَيْئًا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ أَحْبَبْت فَقَالَتْ قَدْ شِئْت الطَّلَاقَ وَقَعَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا أَتَتْ بِمَا جَعَلَهُ شَرْطًا بَلْ بِأَقْوَى عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَشِيئَةَ مِنْهَا أَقْوَى مِنْ الْمَحَبَّةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت فَقَالَتْ قَدْ أَحْبَبْت أَوْ هَوِيت أَوْ أَرَدْت لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهَا أَتَتْ بِدُونِ مَا جَعَلَهُ شَرْطًا فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ وَمَا لَمْ يَتِمَّ الشَّرْطُ لَا يَنْزِلُ الْجَزَاءُ.

(قَالَ) وَلَوْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك وَاحِدَةً إنْ شِئْت فَقَالَتْ قَدْ طَلَّقْت نَفْسِي وَاحِدَةً فَهِيَ طَالِقٌ؛ لِأَنَّ إيقَاعَهَا عَلَى نَفْسِهَا مَشِيئَةٌ مِنْهَا وَزِيَادَةٌ فَيَتِمُّ بِهِ شَرْطُ الْمَشِيئَةِ.

(قَالَ) وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ شِئْت فَقَالَتْ قَدْ شِئْت إنْ كَانَ كَذَا لِشَيْءٍ مَاضٍ كَانَتْ طَالِقًا؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِشَرْطٍ مَوْجُودٍ يَكُونُ تَنْجِيزًا.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِالتَّنْجِيزِ يَمْلِكُ هَذَا النَّوْعَ مِنْ التَّعْلِيقِ بِخِلَافِ التَّعْلِيقِ بِمَا يَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبِلِ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ قَالَتْ قَدْ شِئْت إنْ كُنْت زَوْجِي كَانَ ذَلِكَ مَشِيئَةً مِنْهَا وَلَوْ قَالَتْ قَدْ شِئْت إنْ شِئْت فَقَالَ الزَّوْجُ قَدْ شِئْت كَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهَا عَلَّقْت مَشِيئَتَهَا بِمَشِيئَةٍ مُنْتَظَرَةٍ وَهِيَ مَشِيئَةُ الزَّوْجِ فَكَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا مِنْهَا كَمَا لَوْ عَلَّقْت بِمَشِيئَةِ رَجُلٍ آخَرَ. (فَإِنْ قِيلَ) يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ بِقَوْلِ الزَّوْجِ شِئْت؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ بِهَذَا اللَّفْظِ. (قُلْنَا) إنَّمَا يَمْلِكُ الْإِيقَاعَ بِمَشِيئَةِ الطَّلَاقِ وَهُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ شَاءَ مَشِيئَتَهَا؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ جَوَابَهَا حَتَّى لَوْ قَالَ شِئْت الطَّلَاقَ نَقُولُ يَقَعُ إذَا نَوَى الطَّلَاقَ وَإِذَا قَالَ لِغَيْرِهِ طَلِّقْ امْرَأَتِي فَهُوَ رَسُولٌ مَعْنَاهُ أَنَّ الْوَكِيلَ فِي الطَّلَاقِ وَالرَّسُولَ سَوَاءٌ

الصفحة 202