كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 6)

نَفْسَهَا فَلَا يَكُونُ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ وَكَذَلِكَ إذَا دَعَتْ شُهُودًا؛ لِأَنَّهَا تَقْصِدُ بِذَلِكَ إشْهَادَهُمْ عَلَى اخْتِيَارِ أَمْرِ نَفْسِهَا وَكَذَلِكَ إذَا قَالَتْ اُدْعُوا إلَيَّ أَبِي وَأُمِّي؛ لِأَنَّهَا تَقْصِدُ بِذَلِكَ أَنْ تَسْتَشِيرَهُمَا فَلَا يَكُونَ ذَلِكَ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ مِنْهَا وَالِاسْتِشَارَةُ فِي مِثْلِ هَذَا حَسَنٌ عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إنِّي أَعْرِضُ عَلَيْك أَمْرًا فَلَا تُحْدِثِي فِيهِ شَيْئًا حَتَّى تَسْتَشِيرِي أَبَوَيْك ثُمَّ تَلَا عَلَيْهَا آيَةَ التَّخْيِيرِ وَخَيَّرَهَا فَقَالَتْ أَفِي هَذَا أَسْتَشِيرُ أَبَوَيَّ أَنَا أَخْتَارُ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ» وَكَذَلِكَ إنْ سَبَّحَتْ أَوْ قَرَأَتْ آيَةً أَوْ نَحْوَهَا مِنْ الْقُرْآنِ فَلَا يَكُونُ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ مِنْهَا وَقَدْ يَفْعَلُ الْمَرْءُ ذَلِكَ لِلِاسْتِخَارَةِ فَلَا يَبْطُلُ بِهِ مَا صَارَ فِي يَدِهَا مِنْ الْخِيَارِ وَالْأَمْرِ وَالْمَشِيئَةِ.

(قَالَ) وَإِذَا خَيَّرَهَا أَوْ جَعَلَ أَمْرَهَا إلَيْهَا فَقَالَتْ قَدْ طَلَّقْتُك فَهُوَ بَاطِلٌ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ الزَّوْجَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلطَّلَاقِ وَرَوَيْنَا فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -

(قَالَ) وَإِذَا قَالَ اخْتَارِي ثُمَّ اخْتَارِي ثُمَّ اخْتَارِي يَنْوِي الطَّلَاقَ بِهَذَا كُلِّهِ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَهِيَ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ؛ لِأَنَّ الْوُقُوعَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ عِنْدَ اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا يَكُونُ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَإِنَّ اخْتِيَارَهَا نَفْسَهَا جَوَابٌ لِلْكَلِمَاتِ الثَّلَاثِ وَالتَّرْتِيبُ بِحَرْفِ ثُمَّ فِي كَلَامِ الزَّوْجِ فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ تَرْتِيبًا فِي الْوُقُوعِ؛ لِأَنَّ الْوُقُوعَ بِاخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا وَلَوْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا بِالْأُولَى قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ بَانَتْ بِالْأُولَى وَلَمْ يَقَعْ بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْبَائِنَ لَا يَلْحَقُ الْبَائِنَ وَلِأَنَّهَا مَلَكَتْ أَمْرَ نَفْسِهَا حِينَ بَانَتْ بِالْأُولَى فَلَا يَكُونُ كَلَامُهُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ إيجَابًا بَلْ إخْبَارًا عَنْ حَالِهَا أَنَّهَا مَالِكَةٌ أَمْرَ نَفْسِهَا وَهُوَ صَادِقٌ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ هُنَاكَ كَلَامَهُ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ إيجَابٌ؛ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَمْلِكَ أَمْرَ نَفْسِهَا.

(قَالَ) وَلَوْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي اخْتَارِي اخْتَارِي فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَقَالَ الزَّوْجُ نَوَيْت بِالْأُولَى الطَّلَاقَ وَبِالْأُخْرَيَيْنِ أَنْ أُفْهِمَهَا لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ وَبَانَتْ بِثَلَاثٍ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ إيجَابٌ صَحِيحٌ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرِ وَلَكِنَّهُ يَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْوَاحِدَ قَدْ يُكَرَّرُ لِلتَّأَكُّدِ وَتَفْهِيمِ الْمُخَاطَبِ وَلَوْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت فَلَمَّا قَامَتْ عَنْ الْمَجْلِسِ قَالَتْ عَنَيْت نَفْسِي لَمْ تُصَدَّقْ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ خَرَجَ مِنْ يَدِهَا بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ فَإِنَّمَا أَخْبَرَتْ بِمَا لَا تَمْلِكُ إنْشَاءَهُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَوْ قَالَتْ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ أَرَدْت نَفْسِي أَنَّ ذَلِكَ يَصِحُّ مِنْهَا لِبَقَائِهَا فِي الْمَجْلِسِ كَمَا لَوْ سَكَتَتْ حَتَّى الْآنَ ثُمَّ قَالَتْ اخْتَرْت نَفْسِي وَلَكِنَّهُ قَالَ فِي التَّعْلِيلِ قَدْ خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا حِينَ تَكَلَّمَتْ بِذَلِكَ فَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهَا وَإِنْ قَالَتْ فِي الْمَجْلِسِ أَرَدْت

الصفحة 214