كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 6)

وَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ وَلَوْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي فَقَالَتْ أَخْتَارُ نَفْسِي فِي الْقِيَاسِ لَا تَطْلُقُ؛ لِأَنَّ كَلَامَهَا وَعْدٌ وَلَيْسَ بِإِيجَابٍ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك فَقَالَتْ أَنَا أُطَلِّقُ نَفْسِي لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ تَطْلُقُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهَا أَخْتَارُ وَعْدٌ صُورَةً وَإِيجَابُ مَعْنًى وَالْعَادَةُ الظَّاهِرُ فِي هَذَا اللَّفْظِ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْحَالُ دُونَ الِاسْتِقْبَالِ يَقُولُ الرَّجُلُ فُلَانٌ يَخْتَارُ كَذَا وَأَنَا أَخْتَارُ كَذَا وَالشَّاهِدُ يَقُولُ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي أَشْهَدُ وَالْمُؤَذِّنُ يَقُولُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَالْمُرَادُ بِهِ التَّحْقِيقُ دُونَ الْوَعْدِ وَلَمْ يُوجَدْ مِثْلُ هَذِهِ الْعَادَةِ فِي قَوْلِهَا أَنَا أُطَلِّقُ نَفْسِي فَلِهَذَا يُؤْخَذُ هُنَاكَ بِالْقِيَاسِ وَلَوْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي فَقَالَتْ قَدْ فَعَلْت لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ كَمَا لَوْ قَالَتْ اخْتَرْت؛ لِأَنَّ قَوْلَهَا قَدْ فَعَلْت فِي مَعْنَى الْإِبْهَامِ أَزْيَدُ مِنْ قَوْلِهَا قَدْ اخْتَرْت وَإِذَا قَالَ اخْتَارِي نَفْسَك فَقَالَتْ قَدْ فَعَلْت طَلُقَتْ كَمَا لَوْ قَالَتْ اخْتَرْت؛ لِأَنَّهَا أَخْرَجَتْ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الْجَوَابِ فَيَصِيرُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْخِطَابِ كَالْمُعَادِ فِي الْجَوَابِ وَإِنْ قَالَ اخْتَارِي إنْ شِئْت فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ فِي اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا مَشِيئَةً وَزِيَادَةً وَإِنْ قَالَ اخْتَارِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَاخْتَارَتْ زَوْجَهَا لَمْ يَلْزَمْهَا الْمَالُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ عَلَيْهَا بِإِزَاءِ الْبَيْنُونَةِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَالْبَيْنُونَةُ قَدْ حَصَلَتْ هُنَا وَقَدْ أَوْجَبَ الزَّوْجُ ذَلِكَ لَهَا بِعِوَضٍ وَفِي اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا قَبُولٌ مِنْهَا.

(قَالَ) وَإِنْ قَالَ اخْتَارِي فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي وَإِنْ كُنْت زَوْجِي أَوْ إنْ كَانَ كَذَا لِشَيْءٍ مَاضٍ وَقَعَ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِالْمَوْجُودِ تَنْجِيزٌ فَهَذَا وَقَوْلُهَا اخْتَرْت نَفْسِي سَوَاءٌ فَإِنْ اشْتَرَطَتْ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ فَقَدْ بَطَلَ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّهَا أَتَتْ بِالتَّعْلِيقِ وَإِنَّمَا فَوَّضَ إلَيْهَا التَّنْجِيزَ فَاشْتِغَالُهَا بِالتَّعْلِيقِ يَكُونُ إعْرَاضًا عَمَّا فَوَّضَ إلَيْهَا فَيَبْطُلُ خِيَارُهَا.

(قَالَ) وَإِنْ قَالَ اخْتَارِي فَقَالَتْ قَدْ طَلَّقْت نَفْسِي طَلُقَتْ وَاحِدَةً بَائِنَةً بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي كَانَ هَذَا بَاطِلًا؛ لِأَنَّ لَفْظَ الِاخْتِيَارِ أَضْعَفُ مِنْ لَفْظِ الطَّلَاقِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الزَّوْجَ يَمْلِكُ الْإِيقَاعَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ دُونَ لَفْظِ الِاخْتِيَارِ فَالْأَضْعَفُ لَا يَصْلُحُ جَوَابًا لِلْأَقْوَى وَالْأَقْوَى يَصْلُحُ جَوَابًا لِلْأَضْعَفِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ قَوْلَهَا طَلَّقْت نَفْسِي لَوْ كَانَ قَبْلَ تَخْيِيرِ الزَّوْجِ تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَةِ الزَّوْجِ فَإِذَا كَانَ بَعْدَ تَخْيِيرِ الزَّوْجِ يَكُونُ عَامِلًا وَقَوْلُهَا اخْتَرْت نَفْسِي قَبْلَ تَخْيِيرِ الزَّوْجِ يَكُونُ لَغْوًا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الزَّوْجِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ تَفْوِيضِ الزَّوْجِ بِقَوْلِهِ طَلِّقِي نَفْسَك؛ لِأَنَّ التَّفْوِيضَ غَيْرُ التَّخْيِيرِ يُقَرِّرُهُ أَنَّ بِقَوْلِهِ اخْتَارِي نَفْسَك يَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ تَمْلِكَ اكْتِسَابَ سَبَبِ الْفُرْقَةِ وَقَوْلَهَا طَلَّقْت نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ فَيَصِحُّ مِنْهَا فَأَمَّا قَوْلُهُ طَلِّقِي نَفْسَك فَإِنَّهُ تَفْوِيضٌ لِلطَّلَاقِ

الصفحة 216