كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 6)

نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الزَّوْجَةَ دُونَ الْمَمْلُوكَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الظِّهَارَ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَنَقَلَ الشَّرْعُ حُكْمَهُ إلَى التَّحْرِيمِ الْمُؤَقَّتِ بِالْكَفَّارَةِ وَالْمَمْلُوكَةُ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِلطَّلَاقِ فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلظِّهَارِ أَيْضًا وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ إيلَاؤُهُ مِنْ الْأَمَةِ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ طَلَاقٌ مُؤَجَّلٌ وَالْأَمَةُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلطَّلَاقِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِي الظِّهَارِ مِنْ الْأَمَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ فَهُوَ بَاطِلٌ كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا وَهَذَا لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّةَ لَا تَحِلُّ لَهُ مَا لَمْ يَتَزَوَّجْهَا فَإِنَّمَا شَبَّهَ مُحَرَّمَةً بِمُحَرَّمَةٍ.

(قَالَ) وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَفَرْجِ أُمِّي أَوْ كَفَخِذِهَا كَانَ مُظَاهِرًا لِأَنَّ فَرْجَ الْأُمِّ وَفَخِذَهَا مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ كَظَهْرِهَا فَيَتَحَقَّقُ تَشْبِيهُ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ وَلَوْ قَالَ كَيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا لِأَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّظَرُ إلَى يَدِهَا وَرِجْلِهَا وَلَا مَسُّهَا فَلَمْ يَتَحَقَّقْ بِهَذَا اللَّفْظِ تَشْبِيهُ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ وَلَوْ قَالَ جَنْبُك أَوْ ظَهْرُك عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ يَدُك أَوْ رِجْلُك لِأَنَّ هَذَا الْعُضْوَ لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ عَادَةً؛ وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ ظُفْرُك مَكَانَ قَوْلِهِ ظَهْرُك وَهُوَ غَلَطٌ فَالظَّهْرُ مِنْ الْجَنْبِ أَلْيَقُ مِنْ الظُّفْرِ.

(قَالَ) وَلَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّي فَهَذَا كَلَامٌ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا لِأَنَّ الْكَافَ لِلتَّشْبِيهِ وَتَشْبِيهُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ مِنْ وَجْهٍ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ وُجُوهٍ فَإِذَا نَوَى بِهِ الْبِرَّ وَالْكَرَامَةَ لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا لِأَنَّ مَا نَوَاهُ مُحْتَمَلٌ وَمَعْنَاهُ أَنْتِ عِنْدِي فِي اسْتِحْقَاقِ الْبِرِّ وَالْكَرَامَةِ كَأُمِّي وَإِنْ نَوَى الظِّهَارَ فَظِهَارٌ لِأَنَّهُ شَبَّهَهَا بِجَمِيعِ الْأُمِّ وَلَوْ شَبَّهَهَا بِظَهْرِ الْأُمِّ كَانَ ظِهَارًا فَإِذَا شَبَّهَهَا بِجَمِيعِ الْأُمِّ كَانَ أَوْلَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - هُوَ ظِهَارٌ وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعَنْهُ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِأَنَّهُ قَالَ فِي الْأَمَالِي إذَا كَانَ هَذَا فِي حَالَةِ الْغَضَبِ وَقَالَ نَوَيْت بِهِ الْبِرَّ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ وَهُوَ ظِهَارٌ وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ إيلَاءٌ لِأَنَّ الْأُمَّ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ بِالنَّصِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] فَكَانَ قَوْلُهُ أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّي بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي هَذَا اللَّفْظِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا يَثْبُتُ أَقَلُّ الْوُجُوهِ وَهُوَ الْإِيلَاءُ وَبِنَحْوِ هَذَا يَحْتَجُّ مُحَمَّدٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَلَكِنَّهُ يَقُولُ هُوَ ظِهَارٌ لِكَافِ التَّشْبِيهِ فِي كَلَامِهِ فَإِنَّ الظِّهَارَ يَخْتَصُّ بِهَذَا الْحَرْفِ وَمَتَى كَانَ مُرَادُهُ الْبِرَّ يَقُولُ أَنْتِ عِنْدِي كَأُمِّي وَلَا يَقُولُ عَلَيَّ إلَّا أَنَّهُ إذَا نَوَى الْبِرَّ أَقَمْنَا حَرْفَ عَلَى مُقَامَ عِنْدَ لِتَصْحِيحِ نِيَّتِهِ فَإِذَا لَمْ يَنْوِ بَقِيَ مَحْمُولًا عَلَى حَقِيقَتِهِ فَكَانَ ظِهَارًا وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ كَلَامُ الْعَاقِلِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ، مَهْمَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ يَحِلُّ شَرْعًا

الصفحة 228