كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 6)

لَا يُحْمَلُ عَلَى مَا يَحْرُمُ شَرْعًا، وَالظِّهَارُ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ إذَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى مَعْنَى الْبِرِّ وَالْكَرَامَةِ. تَوْضِيحُهُ: أَنَّهَا كَانَتْ مُحَلَّلَةً لَهُ وَهَذَا الْكَلَامُ يَحْتَمِلُ مَعْنَى الْبِرِّ وَيَحْتَمِلُ مَعْنَى الظِّهَارِ وَلَكِنَّ الْحُرْمَةَ بِالشَّكِّ لَا تَثْبُتُ كَمَا لَا يَثْبُتُ الطَّلَاقُ بِالشَّكِّ

(قَالَ) وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَأُمِّي فَقَدْ انْتَفَى احْتِمَالُ مَعْنَى الْبِرِّ هُنَا لِتَصْرِيحِهِ بِالْحُرْمَةِ فَبَقِيَ احْتِمَالُ الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ فَإِنْ أَرَادَ الطَّلَاقَ فَهُوَ طَلَاقٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ يَكُونُ طَلَاقًا بِالنِّيَّةِ فَقَوْلُهُ كَأُمِّي لِتَأْكِيدِ تِلْكَ الْحُرْمَةِ فَلَا تَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ تَكُونَ طَالِقًا بِالنِّيَّةِ وَكَذَلِكَ إنْ أَرَادَ التَّحْرِيمَ دُونَ الظِّهَارِ فَهُوَ طَلَاقٌ وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَقُولُونَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إيلَاءً بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ إذَا قَصَدَ بِهِ التَّحْرِيمَ فَقَطْ وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّمَا قُصِدَ التَّحْرِيمُ هُنَا لِزَوَالِ الْمِلْكِ لِأَنَّهُ شَبَّهَهَا بِالْأُمِّ وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ حُرْمَةً تُنَافِي الْمِلْكَ وَزَوَالُ الْمِلْكِ بِالتَّحْرِيمِ يَكُونُ بِالطَّلَاقِ وَإِنْ نَوَى بِهِ الظِّهَارَ فَهُوَ ظِهَارٌ لِأَنَّهُ شَبَّهَهَا فِي الْحُرْمَةِ بِأُمِّهِ وَلَوْ شَبَّهَهَا بِظَهْرِ الْأُمِّ كَانَ ظِهَارًا فَكَذَلِكَ إذَا شَبَّهَهَا بِالْأُمِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ ظِهَارٌ لِأَنَّ عِنْدَ الِاحْتِمَالِ لَا يَثْبُتُ إلَّا الْقَدْرُ الْمُتَيَقَّنُ وَالْحُرْمَةُ بِالظِّهَارِ دُونَ الْحُرْمَةِ بِالطَّلَاقِ فَالْحُرْمَةُ بِالظِّهَارِ لَا تُزِيلُ الْمِلْكَ وَالْحُرْمَةُ بِالطَّلَاقِ تُزِيلُهُ.

(قَالَ) وَإِنْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَظَهْرِ أُمِّي فَهُوَ ظِهَارٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - سَوَاءٌ نَوَى الظِّهَارَ أَوْ الطَّلَاقَ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي لِأَنَّ ذَلِكَ اللَّفْظَ إنَّمَا كَانَ ظِهَارًا بِاعْتِبَارِ التَّشْبِيهِ فِي الْحُرْمَةِ فَالتَّصْرِيحُ بِمَا هُوَ مُقْتَضَى كَلَامِهِ يُؤَكِّدُ حُكْمَ الْكَلَامِ وَلَا يُغَيِّرُهُ وَهَذَا اللَّفْظُ صَرِيحٌ فِي الظِّهَارِ فَلَا تَعْمَلُ فِيهِ نِيَّةُ شَيْءٍ آخَرَ كَاللَّفْظِ الَّذِي هُوَ صَرِيحٌ فِي الطَّلَاقِ لَا تَعْمَلُ فِيهِ نِيَّةُ شَيْءٍ آخَرَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إنْ نَوَى الظِّهَارَ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ ظِهَارٌ وَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ فَهُوَ طَلَاقٌ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ فَإِنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ تَسَعُ فِيهِ نِيَّةُ الطَّلَاقِ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ فَقَوْلُهُ كَظَهْرِ أُمِّي يَحْتَمِلُ مَعْنَى التَّأْكِيدِ لِتِلْكَ الْحُرْمَةِ فَلَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُحْتَمِلًا لِنِيَّةِ الطَّلَاقِ وَرَوَى أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ إذَا قَالَ نَوَيْت بِهِ الطَّلَاقَ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِنِيَّتِهِ وَيَكُونُ مُظَاهِرًا بِالتَّصْرِيحِ بِالظِّهَارِ وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ فِي صَرْفِ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ زَيْنَبُ طَالِقٌ وَلَهُ امْرَأَةٌ مَعْرُوفَةٌ بِهَذَا الِاسْمِ فَقَالَ لِي امْرَأَةٌ أُخْرَى وَإِيَّاهَا عَنَيْت يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَى تِلْكَ بِنِيَّتِهِ وَعَلَى هَذِهِ الْمَعْرُوفَةِ بِالظَّاهِرِ وَلَكِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّ الطَّلَاقَ لَوْ وَقَعَ بِقَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَانَ مُتَكَلِّمًا بِلَفْظِ الظِّهَارِ بَعْدَ مَا بَانَتْ وَالظِّهَارُ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ لَا يَصِحُّ. (فَإِنْ قِيلَ)

الصفحة 229