كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 10)
[كِتَابُ السِّيَرِ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ السِّيَرِ (قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اعْلَمْ أَنَّ السِّيَرَ جَمْعُ سِيرَةٍ وَبِهِ سُمِّيَ هَذَا الْكِتَابُ لِأَنَّهُ بَيَّنَ فِيهِ سِيرَةَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَمَعَ أَهْلِ الْعَهْدِ مِنْهُمْ مِنْ الْمُسْتَأْمَنِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ وَمَعَ الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ هُمْ أَخْبَثُ الْكُفَّارِ بِالْإِنْكَارِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ وَمَعَ أَهْلِ الْبَغْيِ الَّذِينَ حَالُهُمْ دُونَ حَالِ الْمُشْرِكِينَ وَإِنْ كَانُوا جَاهِلِينَ وَفِي التَّأْوِيلِ مُبْطِلِينَ فَأَمَّا بَيَانُ الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ فَنَقُولُ الْوَاجِبُ دُعَاؤُهُمْ إلَى الدِّينِ وَقِتَالُ الْمُمْتَنِعِينَ مِنْهُمْ مِنْ الْإِجَابَةِ لِأَنَّ صِفَةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَبِهَا كَانُوا خَيْرَ الْأُمَمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] الْآيَةُ وَرَأْسُ الْمَعْرُوفِ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَعَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَكُونَ آمِرًا بِهِ دَاعِيًا إلَيْهِ وَأَصْلُ الْمُنْكَرِ الشِّرْكُ فَهُوَ أَعْظَمُ مَا يَكُونُ مِنْ الْجَهْلِ وَالْعِنَادِ لِمَا فِيهِ إنْكَارِ الْحَقِّ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ فَعَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يُنْهِيَ عَنْهُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَأْمُورًا فِي الِابْتِدَاءِ بِالصَّفْحِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الْمُشْرِكِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: 85] وَقَالَ تَعَالَى {وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 106] ثُمَّ أَمَرَ بِالدُّعَاءِ إلَى الدِّينِ بِالْوَعْظِ وَالْمُجَادَلَةِ بِالْأَحْسَنِ فَقَالَ تَعَالَى {اُدْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] ثُمَّ أُمِرَ بِالْقِتَالِ إذَا كَانَتْ الْبِدَايَةُ مِنْهُمْ فَقَالَ تَعَالَى {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39] أَيْ أُذِنَ لَهُمْ فِي الدَّفْعِ وَقَالَ تَعَالَى {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191] وَقَالَ تَعَالَى {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلَمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] ثُمَّ أَمَرَ بِالْبِدَايَةِ بِالْقِتَالِ فَقَالَ تَعَالَى {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] وَقَالَ تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5].
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» فَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْجِهَادِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ فَرْضٌ قَائِمٌ إلَى قِيَامِ
الصفحة 2
222