كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 10)
اُقْتُلُوا شُيُوخَ الْمُشْرِكِينَ وَاسْتَحْيُوا شُرُوخَهُمْ» وَالْمُرَادُ بِالشُّيُوخِ الْبَالِغِينَ وَبِالشُّرُوخِ الْأَتْبَاعُ مِنْ الصِّغَارِ وَالنِّسَاءِ وَالِاسْتِحْيَاءُ الِاسْتِرْقَاقُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ} [غافر: 25] وَفِي وَصِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ: لَا تَقْتُلْ شَيْخًا ضَرِعًا وَلَا صَبِيًّا ضَعِيفًا يَعْنِي شَيْخًا فَانِيًا وَصَغِيرًا لَا يُقَاتِلُ.
قَالَ: «وَإِذَا لَقِيتُمْ عَدُوَّكُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ» وَفِي نُسَخِ أَبِي حَفْصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «وَإِذَا حَاصَرْتُمْ حِصْنًا أَوْ مَدِينَةً فَادْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ» وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْغُزَاةِ أَنْ يَبْدَءُوا بِالدُّعَاءِ إلَى الْإِسْلَامِ وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ فَإِنْ كَانُوا يُقَاتِلُونَ قَوْمًا لَمْ تَبْلُغْهُمْ الدَّعْوَةُ فَلَا يَحِلُّ قِتَالُهُمْ حَتَّى يُدْعَوْا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «مَا قَاتَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْمًا حَتَّى دَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ» وَهَذَا لِأَنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ عَلَى مَاذَا يُقَاتِلُونَ فَرُبَّمَا يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ لُصُوصٌ قَصَدُوا أَمْوَالَهُمْ وَلَوْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ عَلَى الدُّعَاءِ إلَى الدِّينِ رُبَّمَا أَجَابُوا وَانْقَادُوا لِلْحَقِّ فَلِهَذَا يَجِبُ تَقْدِيمُ الدَّعْوَةِ وَإِنْ كَانُوا قَدْ بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ فَالْأَحْسَنُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ أَيْضًا فَالْجِدُّ وَالْمُبَالَغَةُ فِي الْإِنْذَارِ رُبَّمَا يَنْفَعُ «وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا قَاتَلَ قَوْمًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ دَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ ثُمَّ اشْتَغَلَ بِالصَّلَاةِ وَعَادَ بَعْدَ الْفَرَاغِ إلَى الْقِتَالِ جَدَّدَ الدَّعْوَةَ» وَإِنْ تَرَكُوا ذَلِكَ وَبَيَّتُوهُمْ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا عَلَى مَاذَا يُقَاتِلُونَ وَلَوْ اشْتَغَلُوا بِالدَّعْوَةِ رُبَّمَا تَحَصَّنُوا فَلَا يَتَمَكَّنُ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ بِغَيْرِ دَعْوَةٍ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَمَرَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنْ يُغِيرَ عَلَى أُبْنَى صَبَاحًا» وَفِي رِوَايَةٍ «ابْنَانِ صَبَاحًا فَإِنْ أَسْلَمُوا فَاقْبَلُوا مِنْهُمْ وَكُفُّوا عَنْهُمْ» وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُمْ إذَا أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ وَجَبَ الْكَفُّ عَنْهُمْ وَقَبُولُ ذَلِكَ عَنْهُمْ وَإِلَيْهِ أَشَارَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ «فَإِذَا قَالُوهَا فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ» وَقَالَ تَعَالَى {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء: 94].
(قَالَ): اُدْعُوهُمْ إلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دِيَارِهِمْ إلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ وَهَذَا فِي وَقْتٍ كَانَتْ الْهِجْرَةُ فَرِيضَةً وَذَلِكَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ كَانَ يُفْتَرَضُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي قَبِيلَتِهِ أَنْ يُهَاجِرَ إلَى الْمَدِينَةِ لِيَتَعَلَّمَ أَحْكَامَ الدِّينِ وَيَنْضَمَّ إلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الْقِيَامِ بِنُصْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] الْآيَةَ ثُمَّ انْتَسَخَ ذَلِكَ بَعْدَ الْفَتْحِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَإِنَّمَا هُوَ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السُّوءَ وَهَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ» قَالَ: «فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَاقْبَلُوا مِنْهُمْ وَكُفُّوا عَنْهُمْ وَإِلَّا فَأَخْبِرُوهُمْ أَنَّهُمْ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ وَلَا فِي الْغَنِيمَةِ نَصِيبٌ»
الصفحة 6
222