كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 11)

قِيمَتِهَا، فَلَا يَكُونُ فِيهَا نَظَرٌ لِصَاحِبِهَا، فَأَمَّا فِي الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ تَقِلُّ النَّفَقَةُ، وَمَعْنَى النَّظَرِ لِحِفْظِ عَيْنِ مِلْكِهِ عَلَيْهِ يَحْصُلُ، فَإِنْ لَمْ يَجِئْ صَاحِبُهَا بَاعَ الشَّاةَ وَنَحْوَهَا؛ لِأَنَّ فِي الْبَيْعِ حِفْظُ الْمَالِيَّةِ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ، وَلَهُ وِلَايَةُ الْحِفْظِ عَلَيْهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ حِفْظُ الْعَيْنِ لِعَوَزِ النَّفَقَةِ صَارَ إلَى حِفْظِ الْمَالِ عَلَيْهِ بِالْبَيْعِ، وَأَمَّا الْغُلَامُ وَالدَّابَّةُ فَنُؤَاجِرُهُ وَنُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرِهِ؛ لِأَنَّ بِهَذَا الطَّرِيقِ يُتَوَصَّلُ إلَى حِفْظِ عَيْنِ مِلْكِهِ، وَالْمَنْفَعَةُ لَا تَبْقَى لَهُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَإِجَارَتُهُ وَالْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ بِمَحْضِ نَظَرٍ لَهُ، فَإِذَا بَاعَهَا أَعْطَاهُ الْقَاضِي مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ مَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ بِأَمْرِهِ فِي الْيَوْمَيْنِ أَوْ الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَالُ صَاحِبِهَا، وَالنَّفَقَةُ دَيْنٌ وَاجِبٌ لِلْمُلْتَقِطِ عَلَى صَاحِبِهَا، وَهُوَ مَعْلُومٌ لِلْقَاضِي فَيَقْضِي دَيْنَهُ بِمَالِهِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ لَوْ ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ فَكَذَلِكَ الْقَاضِي بِعَيْنِهِ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَبِعْهَا حَتَّى جَاءَ صَاحِبُهَا، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ قَضَى لَهُ بِهَا الْقَاضِي، وَقَضَى عَلَيْهِ بِنَفَقَةِ الْمُلْتَقِطِ، فَإِنْ قَالَ الْمُلْتَقِطُ: لَا أَدْفَعُهَا إلَيْكَ حَتَّى تُعْطِيَنِي النَّفَقَةَ كَانَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ فِي الدَّابَّةِ حَيٌّ، وَبَقِيَ تَمَلُّكُ النَّفَقَةِ فَكَانَتْ تِلْكَ النَّفَقَةُ مُتَعَلِّقَةً بِمَالِيَّةِ الدَّابَّةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَيَحْبِسُهَا كَمَا يَحْبِسُ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ بِالثَّمَنِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْمُلْتَقِطَ إذَا لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ هَلْ يَأْمُرُ الْقَاضِي بِالْإِنْفَاقِ أَمْ لَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ: إنْ كُنْتَ صَادِقًا فَقَدْ أَمَرْتُكَ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا مَعْنَى النَّظَرِ لَهُمَا، وَلَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ غَاصِبًا لِلدَّابَّةِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ ضَمَانِهِ، وَلَا يَسْتَوْجِبُ الرُّجُوعَ بِالنَّفَقَةِ عَلَى مَالِكِهَا بِالْأَمْرِ لِمَا قَيَّدَهُ بِكَوْنِهِ صَادِقًا فِيهِ.
وَإِذَا الْتَقَطَ الرَّجُلُ لُقَطَةً أَوْ وَجَدَ دَابَّةً ضَالَّةً أَوْ أَمَةً أَوْ عَبْدًا أَوْ صَبِيًّا حُرًّا ضَالًّا فَرَدَّهُ عَلَى أَهْلِهِ لَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ جُعْلٌ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِمَنَافِعِهِ فِي الرَّدِّ، وَوُجُوبِ الْجُعْلِ لِرَدِّ الْآبِقِ حُكْمٌ ثَبَتَ نَصًّا، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِقَوْلِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَلَا يَلْحَقُ بِهِ مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَالضَّالُّ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْآبِقِ فَالْآبِقُ لَا يَزَالُ يَتَبَاعَدُ مِنْ الْمَوْلَى حَتَّى يَفُوتَهُ، وَالضَّالُّ لَا يَزَالُ يَقْرُبُ مِنْ صَاحِبِهِ حَتَّى يَجِدَهُ، فَلِهَذَا أَخَذْنَا فِيهِ بِالْقِيَاسِ، وَإِنْ عَوَّضَهُ صَاحِبُهُ شَيْئًا فَهُوَ حَسَنٌ؛ لِأَنَّهُ يُحْسِنُ إلَيْهِ فِي إحْيَاءِ مِلْكِهِ وَرَدِّهِ عَلَيْهِ، وَهَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إلَّا الْإِحْسَانُ، وَلِأَنَّهُ مُنْعِمٌ عَلَيْهِ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَزَالَتْ إلَيْهِ نِعْمَةٌ فَلْيَشْكُرْهَا» وَذَلِكَ بِالتَّعْوِيضِ، وَأَدْنَى دَرَجَاتِ الْأَمْرِ النَّدْبُ، وَإِذَا وَجَدَ الرَّجُلُ بَعِيرًا ضَالًّا أَخَذَهُ يُعَرِّفُهُ، وَلَمْ يَتْرُكْهُ يَضِيعُ عِنْدَنَا، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَرْكُهُ أَوْلَى لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سُئِلَ عَنْ ضَالَّةِ الْغَنَمِ فَقَالَ: هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ» فَلَمَّا «سُئِلَ عَنْ ضَالَّةِ الْإِبِلِ غَضِبَ حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ، وَقَالَ: مَالَكَ

الصفحة 10