كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 15)
عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِعَبْدٍ فَسَاوَمَهُ وَلَمْ يَشْتَرِهِ فَاشْتَرَاهُ آخَرُ فَأَعْتَقَهُ.» الْحَدِيثُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْمُزَايَدَةِ لَا بَأْسَ بِهِ عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَاعَ قَعْبًا وَحِلْسًا بِبَيْعِ مَنْ يَزِيدُ» وَصِفَةُ بَيْعِ الْمُزَايَدَةِ أَنْ يُنَادِيَ الرَّجُلُ عَلَى سِلْعَتِهِ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِنَائِبِهِ وَيَزِيدُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فَمَا لَمْ يَكُفَّ عَنْ النِّدَاءِ فَلَا بَأْسَ لِلْغَيْرِ أَنْ يَزِيدَ وَإِذَا سَاوَمَهُ إنْسَانٌ بِشَيْءِ فَكَفَّ عَنْ النِّدَاءِ وَرَضِيَ بِذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يُكْرَهُ لِلْغَيْرِ أَنْ يَزِيدَ وَيَكُونُ هَذَا اسْتِيَامًا عَلَى سَوْمِ الْغَيْرِ، وَكَذَلِكَ إذَا خَطَبَ امْرَأَةً وَلَمْ تَرْكَنْ إلَيْهِ فَلَا بَأْسَ لِلْغَيْرِ أَنْ يَخْطُبَهَا عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ إنَّ مُعَاوِيَةَ يَخْطُبُنِي، وَإِنَّ أَبَا الْجَهْمِ يَخْطُبُنِي فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَرَجُلٌ صُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ وَأَمَّا أَبُو الْجَهْمِ فَهُوَ لَا يَرْفَعُ الْعَصَا عَنْ أَهْلِهِ انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فَإِنَّكِ تَجِدِينَ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا»، فَأَمَّا بَعْدَ مَا رَكَنَ أَحَدُهُمَا إلَى صَاحِبِهِ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْطُبَهَا؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْأَذَى إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَالْمُرَادُ بِالنَّجْشِ الْإِثَارَةُ وَمِنْهُ سُمِّيَ الصَّيَّادُ نَاجِشًا؛ لِأَنَّهُ يَنْثُرُ الصَّيْدَ عَنْ أَوْكَارِهَا فَالْمُرَادُ أَنْ يَطْلُبَ السِّلْعَةَ بِثَمَنٍ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَا تُسَاوِي ذَلِكَ وَلَا يَقْصِدُ شِرَاءَهَا وَإِنَّمَا يَقْصِدُ أَنْ يُرَغِّبَ الْغَيْرَ فِي شِرَائِهَا بِهِ وَهَذَا مِنْ بَابِ الْخِدَاعِ وَالْغُرُورِ
وَقَوْلُهُ: «وَلَا تَبِيعُوا بِإِلْقَاءِ الْحَجَرِ» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «وَلَا تَنَابَذُوا» وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا فَالنَّبْذُ هُوَ الطَّرْحُ وَهَذِهِ أَنْوَاعُ بُيُوعٍ كَانُوا تَعَارَفُوهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَهِيَ أَنْ يَرْمِيَ الْحَجَرَ إلَى سِلْعَةِ إنْسَانٍ فَإِنْ أَصَابَهَا وَجَبَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا، أَوْ يَطْلُبَ سِلْعَةً مِنْ إنْسَانٍ فَإِنْ طَرَحَ إلَيْهِ صَاحِبُهَا وَجَبَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ نَهَى الشَّرْعُ عَنْ ذَلِكَ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْغَرَرِ كَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ» وَمَقْصُودُهُ آخِرَ الْحَدِيثِ «وَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ» وَهَذَا دَلِيلُ جَوَازِ الْإِجَارَةِ وَجَوَازِ اسْتِئْجَارِ الْحُرِّ لِلْعَمَلِ وَوُجُوبِ إعْلَامِ الْأَجْرِ وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ تَسْلِيمُ الْأَجْرِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِالْإِعْلَامِ وَلَوْ كَانَ التَّسْلِيمُ يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ لَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ فَلِيُؤْتِهِ أَجْرَهُ وَفِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ» دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا فَإِنَّهُ أَمَرَ بِالْمُسَارَعَةِ إلَى أَدَاءِ الْأُجْرَةِ وَجَعَلَ أَوَّلَ أَوْقَاتِ الْمُسَارَعَةِ مَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ قَبْلَ جُفُوفِ الْعَرَقِ فَدَلَّ أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْوُجُوبِ هَذَا وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: «قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إنِّي أَكَرِي إبِلِي إلَى مَكَّةَ أَفَتَجْزِينِي مِنْ حَجَّتِي؟ فَقَالَ: أَلَسْتَ تُلَبِّي وَتَقِفُ وَتَرْمِي الْجِمَارَ؟ قُلْتُ: بَلَى قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمَّا سَأَلْتَنِي عَنْهُ فَلَمْ يُجِبْهُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْتُمْ حَاجٌّ».
الصفحة 76
185