كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 15)

الطَّحَّانِ (قَالَ:) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ يَحْكِي عَنْ أُسْتَاذِهِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ يُفْتِي بِجَوَازِ هَذَا وَيَقُولُ: فِيهِ عُرْفٌ ظَاهِرٌ عِنْدَنَا بِنَسَفٍ وَلَوْ لَمْ يُجَوِّزْهُ إنَّمَا يُجَوِّزُهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمَنْصُوصِ وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ بِالْعُرْفِ كَمَا فِي الِاسْتِصْنَاعِ، ثُمَّ فِيهِ مَنْفَعَةٌ فَإِنَّ النَّسَّاجَ يُعَجِّلُ بِالنَّسِيجِ وَيَجِدُّ فِيهِ إذَا كَانَ لَهُ فِي الثَّوْبِ نَصِيبٌ.

قَالَ: وَلَوْ دَفَعَ سِمْسِمًا إلَى رَجُلٍ فَقَالَ: قَشِّرْهُ وَرَبِّهِ بِبَنَفْسَجٍ فَاعْصِرْهُ عَلَى أَنْ أُعْطِيَكَ أَجْرَهُ دِرْهَمًا كَانَ هَذَا فَاسِدًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ مَا شَرَطَ مِنْ الْبَنَفْسَجِ وَجَهَالَةُ ذَلِكَ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ دَفَعَ إلَى صَبَّاغٍ ثَوْبًا لِيَصْبُغَهُ بِصِبْغٍ مِنْ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ الصَّبْغِ فِي كُلِّ الثَّوْبِ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ الْمُصْبَغُ مِنْهُ وَغَيْرُ الْمُصْبَغِ وَلَا تَتَمَكَّنُ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ اللَّوْنَ فِي الثَّوْبِ مَحْسُوسٌ، فَأَمَّا الرَّائِحَةُ فِي الدُّهْنِ الْمُرَبَّى غَيْرُ مَحْسُوسٍ وَيَتَفَاوَتُ ذَلِكَ بِتَفَاوُتِ مَا يُرَبَّى بِهِ مِنْ الْبَنَفْسَجِ فَتَتَمَكَّنُ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ إعْلَامَ مِقْدَارِ الصَّبْغِ يَتَعَذَّرُ عَلَى الصَّبَّاغِ؛ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ الثِّيَابَ وَيَصْبُغُ الْكُلَّ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ لِذَلِكَ، فَأَمَّا الْقَشَّارُ لَا يَخْلِطُ سِمْسِمَ النَّاسِ وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ صَارَ ضَامِنًا وَلَكِنَّهُ يُرَبِّي سِمْسِمَ كُلِّ إنْسَانٍ عَلَى حِدَةٍ فَلَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ إعْلَامُ مِقْدَارِ الْبَنَفْسَجِ؛ فَلِهَذَا شُرِطَ ذَلِكَ، وَإِنْ قَالَ: عَلَى أَنْ تُرَبِّيَهُ بِقَفِيزٍ مِنْ بَنَفْسَجٍ فَهَذَا جَائِزٌ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْبَنَفْسَجُ الَّذِي يَدْخُلُ فِي مِثْلِ هَذَا السِّمْسِمِ مَعْرُوفًا عِنْدَ التُّجَّارِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْلُومَ بِالْعُرْفِ كَالْمَعْلُومِ بِالشَّرْطِ وَلَا تَتَمَكَّنُ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا إذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا؛ فَلِهَذَا جَوَّزْنَاهُ، ثُمَّ تَبَيَّنَ بَعْدَ هَذَا مَا يَجُوزُ فِيهِ الِاسْتِصْنَاعُ وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ الْعُرْفُ وَكُلُّ مَا تَعَارَفَ النَّاسُ الِاسْتِصْنَاعَ فِيهِ فَهُوَ جَائِزٌ فَإِذَا جَاءَ بِهِ الصَّانِعُ مَفْرُوغًا عَنْهُ وَاخْتَارَ الْمُسْتَصْنِعُ أَخْذَهُ فَلَيْسَ لِلصَّانِعِ أَنْ يَمْنَعَ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ قَدْ لَزِمَ فِيهِ بِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ إنْ كَانَ لَمْ يَسْتَوْفِ الثَّمَنَ حَبَسَهُ بِالثَّمَنِ، وَإِنْ بَاعَهُ الصَّانِعُ قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ الْمُسْتَصْنِعُ فَبَيْعُهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ فَالْعَقْدُ لَا يَتَعَيَّنُ فِي هَذَا الْمَصْنُوعِ قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ الْمُسْتَصْنِعُ وَإِذَا نَفَذَ بَيْعُهُ صَارَ مَمْلُوكًا لِلْمُشْتَرِي فَلَا سَبِيلَ لِلْمُسْتَصْنِعِ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ
وَإِذَا دَفَعَ إلَى إسْكَافٍ جِلْدًا وَاسْتَأْجَرَهُ بِأَجْرٍ مُسَمًّى عَلَى أَنْ يَخْرُزَهُ لَهُ خُفَّيْنِ بِصِفَةٍ مَعْلُومَةٍ عَلَى أَنْ يَفْعَلَهُ الْإِسْكَافُ وَيُبَطِّنَهُ وَوَصَفَ لَهُ الْبِطَانَةَ وَالنَّعْلَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَارَفٌ وَإِذَا جَازَ الِاسْتِصْنَاعُ فِي الْخُفِّ لِكَوْنِهِ مُتَعَارَفًا فَفِي الْبِطَانَةِ وَالنَّعْلِ أَجْوَزُ، وَلَا خِيَارَ لِصَاحِبِ الْأَدِيمِ إذَا عَمِلَهُ عَمَلًا مُقَارَنًا لَا فَسَادَ فِيهِ وَكَانَ يَنْبَغِيَ أَنْ يُثْبِتَ لَهُ الْخِيَارَ وَالْبِطَانَةَ وَالنَّعْلَ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ لَكِنَّهُ قَالَ لَا خِيَارَ لَهُ فِي أَصْلِ الْأَدِيمِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ وَلَا يَتَأَتَّى الرَّدُّ فِي الْبِطَانَةِ وَالنَّعْلِ مُنْفَرِدًا عَنْ الْأَصْلِ، ثُمَّ الْبِطَانَةُ وَالنَّعْلُ بَيْعٌ فِي هَذَا الْعَقْدِ

الصفحة 90