كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 15)

وَالْمَقْصُودُ هُوَ الْعَمَلُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ بِالْبِطَانَةِ وَالنَّعْلِ يَصِيرُ الْخُفُّ أَحْكَمَ وَأَنَّ الْخُفَّ يُنْسَبُ إلَى الْأَدِيمِ دُونَ الْبِطَانَةِ وَالنَّعْلِ وَلَا خِيَارَ لَهُ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الْعَمَلُ وَفِيمَا هُوَ الْأَصْلُ وَهُوَ الْأَدِيمُ، فَكَذَلِكَ فِي الْبَيْعِ، وَإِنْ جَاءَ بِهِ فَاسِدًا ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الْجِلْدِ إنْ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا طَلَبَ مِنْهُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ دُونَ الْفَاسِدِ فَكَانَ هُوَ فِي إقَامَةِ أَصْلِ الْعَمَلِ مُوَافِقًا وَبِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْفَسَادِ فِي الْعَمَلِ مُخَالِفًا فَإِنْ شَاءَ مَالَ إلَى الْخِلَافِ وَجَعَلَهُ كَالْغَاضِبِ فَيُضَمِّنُهُ قِيمَةَ جِلْدِهِ، وَإِنْ شَاءَ مَالَ إلَى الْمُوَافَقَةِ فِي أَصْلِ الْعَمَلِ وَرَضِيَ بِهِ مَعَ تَغْيِيرِ الْوَصْفِ فَأَخَذَ الْخُفَّيْنِ وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِ عَمَلِهِ وَقِيمَةَ مَا زَادَ فِيهِ وَلَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سُمِّيَ لَهُ، أَمَّا أَجْرُ مِثْلِ الْعَمَلِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُسَمَّى بِإِزَاءِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فَعِنْدَ الْفَسَادِ يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ وَقِيمَةُ مَا زَادَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مُشْتَرٍ لَهُ وَقَدْ تَمَّ قَبْضُهُ بِاتِّصَالِهِ بِمِلْكِهِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ قَالَ قَوْلَهُ وَلَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سَمَّى، يَنْصَرِفُ إلَى الْأَجْرِ خَاصَّةً دُونَ قِيمَةِ مَا زَادَ فِيهِ فَإِنَّ الْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ؛ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ مُتَقَوِّمَةٌ بِنَفْسِهَا بِخِلَافِ الْمَنَافِعِ
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا بِمَا ذُكِرَ فِي آخِرِ الْبَابِ فِي مَسْأَلَةِ الْجُبَّةِ وَلَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سَمَّى فِي أَجْرِ عَمَلِهِ خَاصَّةً وَقَالُوا: بَيَانُهُ فِي فَصْلٍ يَكُونُ بَيِّنًا فِي جَمِيعِ الْفُصُولِ وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ قَوْلَهُ وَلَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سُمِّيَ لَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الْبِطَانَةَ وَالنَّعْلَ تَابِعٌ لِلْعَمَلِ؛ وَلِهَذَا يَجُوزُ الْعَقْدُ هُنَا فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مَقْصُودًا مَا جَازَ الْعَقْدُ فِيهِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا وَالتَّبَعُ مُعْتَبَرٌ بِالْأَصْلِ فَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ لَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سُمِّيَ لَهُ، فَكَذَلِكَ فِي التَّبَعِ وَسَنُقَرِّرُ هَذَا الْفَرْقَ فِي مَسْأَلَةِ الْجُبَّةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَلِكَ إنْ سَلَّمَ خِرْقَةً إلَى صَانِعٍ لِيَصْنَعَهَا قَلَنْسُوَةً وَيُبَطِّنَهَا وَيَحْشُوَهَا فَهُوَ مِثْلُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْبِطَانَةَ وَالْحَشْوَ فِي الْقَلَنْسُوَةِ تَبَعٌ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْقَلَنْسُوَةَ تُنْسَبُ إلَى الظِّهَارَةِ وَأَنَّهَا بِالْبِطَانَةِ وَالْحَشْوِ تَصِيرُ أَحْكَمَ وَاسْمُ الْقَلَنْسُوَةِ يَتَنَاوَلُهُ بِدُونِ الْبِطَانَةِ وَالْحَشْوِ كَالْخُفِّ فَالْجَوَابُ فِيهِمَا سَوَاءٌ وَبِجَمِيعِ هَؤُلَاءِ الصُّنَّاعِ إذَا رَضِيَ الْمُسْتَصْنِعُ الْعَمَلَ وَأَجَازَهُ أَنْ لَا يَدْفَعَهُ لَهُ حَتَّى يَأْخُذَ مِنْهُ الْأَجْرَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُؤَجَّلًا فَلَا يَكُونُ لَهُ مَنْعُ الْمَتَاعِ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ فِي الْإِجَارَاتِ كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ، وَالْمَبِيعُ يُحْبَسُ بِالثَّمَنِ إذَا كَانَ الْبَيْعُ حَالًّا وَلَا يُحْبَسُ بِهِ إذَا كَانَ مُؤَجَّلًا وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ لِلصَّانِعِ حَقُّ الْحَبْسِ بِالْأُجْرَةِ إذَا كَانَ الْأَصْلُ مِلْكًا لِلْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسَلِّمًا الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بِاتِّصَالِهِ بِمِلْكِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْوَصْفُ الَّذِي أَحْدَثَهُ بِعَمَلِهِ وَقَدْ اتَّصَلَ ذَلِكَ بِمِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ بِاخْتِيَارِ الْعَامِلِ وَرِضَاهُ وَبَعْدَ مَا سَلَّمَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذَا تَسْلِيمٌ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ إقَامَةُ الْعَمَلِ بِدُونِ أَنْ يَتَّصِلَ

الصفحة 91