كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 16)

ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ وَإِنْ أَطْلَقَ الْعَقْدَ فَهُوَ فِي مَعْنَى الْمُضَافِ فِي حَقِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَجَدَّدُ انْعِقَادُهُ بِحَسَبِ مَا يَحْدُثُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ، أَوْ تُقَامُ الْعَيْنُ الْمُنْتَفَعُ بِهَا مَقَامَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْعَقْدِ.
وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْمُضَافِ إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَبَيْنَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْمُدَّةِ لِبَيَانِ مِقْدَارِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَالْكَيْلِ فِيمَا يُكَالُ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِهِ، وَبِهِ فَارَقَ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَإِنَّ التَّعْلِيقَ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي الْحَالِ وَالْإِضَافَةُ لَا تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَفِي لُزُومِ الْإِجَارَةِ الْمُضَافَةِ رِوَايَتَانِ وَأَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّهُ يَلْزَمُ، وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَفْسَخَ إلَّا بِعُذْرٍ فَإِنَّ الْأَجْرَ لَا يُمْلَكُ بِشَرْطِ التَّعْجِيلِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا شُرِطَ التَّعْجِيلُ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ تَأَخَّرَ الْمِلْكُ بِقَضِيَّةِ الْمُسَاوَاةِ فَيَحْتَمِلُ التَّغَيُّرَ بِالشَّرْطِ وَهُنَا تَأَخَّرَ الْمِلْكُ لِنَصِيبِهِمَا عَلَى التَّأْخِيرِ بِإِضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِالشَّرْطِ.

وَلَوْ تَكَارَى إبِلًا إلَى مَكَّةَ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَكِيلِ أَوْ الْمَوْزُونِ مَعْلُومِ الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ وَجَعَلَ لَهُ أَجَلًا مُسَمًّى فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ الْمَوْضِعَ الَّذِي يُوَفِّيهِ فِيهِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى الْخِلَافِ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْمَكَانِ فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ قَوْلُهُمَا، وَإِنْ حَلَّ الْأَجَلُ بِمَكَّةَ وَأَرَادَ أَخْذَهُ هُنَاكَ وَأَبَى الْمُسْتَأْجِرُ فَإِنْ اسْتَوْثَقَ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ عَلَى أَنْ يُوَفِّيَهُ بِالْكُوفَةِ حَيْثُ تَكَارَى، وَقَدْ ذَكَرْنَا عَلَى قَوْلِهِمَا أَنَّ فِي إجَارَةِ الدَّارِ يَتَعَيَّنُ لِلْإِيفَاءِ مَوْضِعُ الدَّارِ وَهُنَا ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ يَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا بِحَسَبِ سَيْرِ الدَّابَّةِ فِي الطَّرِيقِ فَيَتَعَذَّرُ تَعْيِينُ مَوْضِعِ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لِلْإِيفَاءِ وَرُبَّمَا يَتَعَيَّنُ لِلتَّسْلِيمِ مَوْضِعُ السَّبَبِ وَهُوَ الْعَقْدُ، وَإِنْ كَانَ الْأَجْرُ شَيْئًا بِعَيْنِهِ مِمَّا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ فَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ لِإِيفَائِهِ الْمَوْضِعَ الَّذِي فِيهِ ذَلِكَ الْعَيْنُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِعَيْنِهِ كَالْمَبِيعِ بِخِلَافِ مَا لَا حَمْلَ لَهُ وَلَا مُؤْنَةَ فَإِنَّهُ يُسَلَّمُ إلَيْهِ بَعْدَ الْوُجُوبِ حَيْثُ مَا لَقِيَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْبُيُوعِ.

وَلَوْ تَكَارَى مِنْهُ حِمْلًا وَزَامِلَةً وَشَرَطَ حِمْلًا مَعْلُومًا عَلَى الزَّامِلَةِ فَمَا أُكِلَ مِنْ ذَلِكَ الْحِمْلِ أَوْ نَقَصَ مِنْ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ كَانَ لَهُ أَنْ يُتِمَّ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ ذَاهِبًا وَجَائِيًا؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ حِمْلًا مُسَمًّى عَلَى الْبَعِيرِ فِي جَمِيعِ الطَّرِيقِ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مَا اسْتَحَقَّهُ بِالشَّرْطِ، وَلَيْسَ لِلْحَمَّالِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْمَحْمِلِ فَإِنَّهُ إذَا شَرَطَ فِيهِ إنْسَانَيْنِ مَعْلُومَيْنِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ غَيْرَهُمَا إلَّا بِرِضَاءِ الْحَمَّالِ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ عَلَى الدَّابَّةِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الرَّاكِبِ، وَإِنْ خَرَجَ بِالْبَعِيرَيْنِ يَقُودُهُمَا وَلَا يَرْكَبُهُمَا وَلَمْ يَحْمِلْ عَلَيْهِمَا جَائِيًا فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ كَامِلًا لِتَمَكُّنِهِ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ بَعَثَ بِهِمَا مَعَ عَبْدِهِ يَقُودُهُمَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ خُطُوَاتُ الدَّابَّةِ فِي الطَّرِيقِ، وَقَدْ صَارَ مُسَلَّمًا إلَى

الصفحة 21