كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 16)

كَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ.
وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لَا يُؤَاجِرُ نَفْسَهُ فَإِنْ فَعَلَ وَسَلَّمَ مِنْ الْعَمَلِ وَجَبَ لَهُ الْأَجْرُ اسْتِحْسَانًا لِمَا قُلْنَا فَإِنْ مَاتَ مِنْ الْعَمَلِ تَقَرَّرَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ لَهُ، ثُمَّ الْأَجْرُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ مِنْ حِينِ وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ الْحُرِّ فَإِنَّهُ، وَإِنْ هَلَكَ فِي الْعَمَلِ فَلَهُ الْأَجْرُ بِقَدْرِ مَا أَقَامَ مِنْ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّ الْحُرَّ لَا يُمْلَكُ بِالضَّمَانِ. وَإِذَا أَخَذَ الْعَبْدُ الْأَجْرَ فَهُوَ لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُ عَبْدِهِ فَإِنْ أَخَذَهُ الْغَاصِبُ مِنْ يَدِهِ فَاسْتَهْلَكَهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ إتْلَافَ بَدَلِ مَنْفَعَةٍ كَإِتْلَافِ مَنَافِعِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْغَصْبِ

وَإِذَا اسْتَأْجَرَ نَهْرًا يَابِسًا لِيُجْرِيَ فِيهِ الْمَاءَ بِأَرْضِهِ، أَوْ إلَى رَحَا مَاءٍ فَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ النَّهْرِ لَا يَصْلُحُ لِلسُّكْنَى وَإِجْرَاءُ الْمَاءِ فِيهِ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ وَمِقْدَارُ مَا يَجْرِي مِنْ الْمَاءِ مَجْهُولٌ وَالضَّرَرُ يَخْتَلِفُ بِقِلَّتِهِ وَكَثْرَتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ بَالُوعَةً لِيَصُبَّ فِيهَا وُضُوءَهُ وَبَوْلَهُ، أَوْ مَسِيلَ مَاءٍ لِيَسِيلَ فِيهِ مَاءُ مِيزَابِهِ فَهَذَا مَجْهُولٌ وَالضَّرَرُ يَخْتَلِفُ بِقِلَّتِهِ وَكَثْرَتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ بِئْرًا لِيَسْقِيَ مِنْهَا غَنَمَهُ، وَإِنْ أَرَادَ الْحِيلَةَ فِي ذَلِكَ فَالْوَجْهُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ مِنْ حَرِيمِ النَّهْرِ وَالْبِئْرِ مَوْضِعًا مَعْلُومًا لِيَكُونَ عَطَنًا لِمَوَاشِيهِ وَيُبِيحُ لَهُ سَقْيَ الْمَوَاشِي مِنْ الْبِئْرِ، وَكَذَلِكَ إجَارَةُ الْمَرْعَى لَا تَجُوزُ وَالْحِيلَةُ فِيهِ أَنْ يُؤَاجِرَهُ مَوْضِعًا مَعْلُومًا لِيَضْرِبَ فِيهِ خَيْمَةً فَيَسْكُنَ وَيُبِيحَ لَهُ الِانْتِفَاعَ بِالْمَرْعَى، وَلَوْ أَجَّرَهُ بَكَرَةً وَحَبْلًا وَدَلْوًا يَسْقِي بِهَا غَنَمَهُ فَهُوَ فَاسِدٌ لِلْجَهَالَةِ إلَّا أَنْ يُسَمِّيَ وَقْتًا فَيَجُوزَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدُ يَرِدُ عَلَى مَنْفَعَةِ الْعَيْنِ فِي الْمُدَّةِ.

فَإِنْ اسْتَأْجَرَ مِنْ رَجُلٍ مَوْضِعَ جِذْعٍ يَضَعُهُ عَلَى حَائِطِهِ لَمْ يَجُزْ عِنْدَنَا وَجَازَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعٌ اسْتَأْجَرَهُ لِمَنْفَعَةٍ مَعْلُومَةٍ وَلَوْ اسْتَعَارَهُ لِذَلِكَ جَازَ. فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَأْجَرَهُ، وَلَكِنَّا أَفْسَدْنَاهُ لِلْجَهَالَةِ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ يَتَفَاوَتُ بِثِقَلِ الْجِذْعِ وَخِفَّتِهِ وَكَثْرَةِ مَا يَبْنِي وَقِلَّتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ حَائِطًا لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ سُتْرَةً فَهُوَ فَاسِدٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِلْجَهَالَةِ، وَقَدْ يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ.

وَإِنْ اسْتَأْجَرَ طَرِيقًا فِي دَارٍ لِيَمُرَّ فِيهِ كُلَّ شَهْرٍ بِأَجْرٍ مُسَمًّى فَهُوَ فَاسِدٌ، وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِجَهَالَةِ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَتَطَرَّقُ فِيهِ وَلِلشُّيُوعِ فَإِنَّ عِنْدَهُ اسْتِئْجَارُ جُزْءٍ مِنْ الدَّارِ شَائِعًا لَا يَجُوزُ. فَكَذَلِكَ الطَّرِيقُ وَعِنْدَهُمَا اسْتِئْجَارُ جُزْءٍ شَائِعٍ صَحِيحٌ. فَكَذَلِكَ الطَّرِيقُ وَهُوَ مَعْلُومٌ بِالْعُرْفِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ فِيهِ مُنَازَعَةٌ.

وَلَوْ اسْتَأْجَرَ عُلُوَّ مَنْزِلٍ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَجَازَ فِي قَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ بِنَاءِ الْعُلُوِّ مَعْلُومٌ بِالْعُرْفِ وَسَطْحُ السُّفْلِ حَقُّ صَاحِبِ السُّفْلِ كَالْأَرْضِ.

وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ بَيْتًا جَازَ. فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَأْجَرَ سَطْحَ السُّفْلِ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ هَذَا اسْتِئْجَارُ الْهَوَاءِ وَالْهَوَاءُ لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ

الصفحة 43